عبر العالم وأينما يممت النظر اليوم إلا وتشاهد أو تسمع عن أعمال عنف أغلبها تقع في الدول الإسلامية ومن طرف جماعات تسمى بالجماعات الإسلامية أو الأصولية .تختلف هذه الجماعات في مبررات ممارستها للعنف وفي حجم عنفها وفي الجهات المستهدَفة ،ولكنها جميعا تشترك في شيئين : الأول أنها تتكئ على الدين الإسلامي لتبرير تصرفاتها حيث لا تعوزها الأسانيد والنصوص الدينية من قرآن وسنة أو من نهج الأولين من المسلمين لتدعم عنفها حتى في أكثر صوره بشاعة ،والثاني أنها تطلب السلطة وتسعى للحكم .
والمثير للتساؤل لماذا المسلمون لوحدهم والعرب على وجه الخصوص من بين كل أصحاب الديانات الأخرى لديهم هذه القابلية لممارسة العنف والإرهاب حتى ضد انفسهم ؟.دون إسقاط فرضية أن بعض الجماعات التي تمارس العنف باسم الدين موجَهَة من طرف قوى أجنبية معادية للإسلام والعرب وتريد نشر الفوضى في العالم العربي خدمة لمصالحها ومصلحة إسرائيل وتشويه الدين الإسلامي ،ودون تجاهل أن عنف بعض الجماعات جاء كرد فعل على عنف أكبر تمارسه دول الغرب الاستعمارية والإمبريالية وعنف الإرهاب الصهيوني الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني ،بالرغم من ذلك فإن ما يجري من عنف باسم الدين لا يمكن تبريره بنظرية المؤامرة فقط ،ولا بمنطق الفعل ورد الفعل ، بل هي مسألة ذات صلة بمنظومة التدين من نمط تفكير وسلوك يبنى عليه ،وعلاقتهما بفهم النص المقدس والمغزى العميق للدين وعلاقته بالدنيا وخصوصا بالسياسة .
بداية يجب التوضيح بأن أوروبا والعلم المسيحي مروا بأوضاع شبيهة بما تشهده الدول الإسلامية اليوم بل أكثر دموية وعنفا ،وذلك خلال القرون الوسطى والحروب الدينية وخصوصا بين الكاثوليك والبروتستانت التي استمرت متقطعة حتى القرن السابع عشر وكان اشهرها حرب الثلاثين سنة ( Thirty Years' War) 1618 - 1648 .وهذه الحرب أدخلت أوروبا في دوامة حرب دامية قُتل خلالها ملايين البشر وفي بعض البلدان كألمانيا فقدت أكثر من ثلث سكانها ،وانتشرت المجاعة والطاعون ، وتم تدمير مدن وقرى بكاملها وأغلب المعالم الأثرية في أوروبا ،ففي المانيا دمر الجيش السويدي 2000 قلعة و ثمانية عشر الف قرية وألف و خمسمائة مدينة ،والحرب الأهلية في اسبانيا قتلت (6485) رجل دين ,و حوالي ثلاثمائة و ستون الف شخص ،ويذكر وول ديورنت في موسوعته (قصة الحضارة) كيف أن هذه الحرب "هبطت بسكان ألمانيا من عشرين مليونا إلى ثلاثة عشر ونصف مليونا ... وكان هناك وفرة في النساء وندرة في الرجال ،وعالج الأمراء الظافرون هذه الأزمة البيولوجية بالعودة إلى تعدد الزوجات كما ورد في العهد القديم ".– قارنوا ما جرى آنذاك بما يجري اليوم في سوريا وليبيا والعراق واليمن- .
بعد هذا الصراع المرير اقتنع الجميع بأن الحل الأمثل لخير ولصالح الدين والدنيا معا هو العلمانية أو الدولة المدنية التي تفصل بين الدين والسياسة ،والتعامل مع الدين كعلاقة بين الإنسان وربه ،واختيار حر للإنسان ،وعدم تدخل الدولة أو الأحزاب في الشأن الديني للمواطنين مقابل عدم تدخل الكنيسة ورجال الدين في الأمور السياسية .
مع العلمانية تم وضع حد للحروب الأهلية على أساس الدين ،ومع العلمانية حافظت الديانة المسيحية على احترامها وقدسيتها دون تدخل الدولة في معتقدات الناس ،بل عملت الدولة بقوانينها المدنية على حماية حرية الرأي والاعتقاد ليس فقط للمسيحيين بل لكل أصحاب الديانات الأخرى المقيمين على أراضيها ،وفي نفس الوقت حافظت الدولة والفضاء السياسي على استقلاليتهما في إطار دول قومية ذات سيادة بعيدا عن تدخل الكنيسة ورجال الدين – معاهدة وستفاليا 1648 - .
أما في عالمنا العربي والإسلامي ،وبالرغم من الخراب والدمار للدولة والمجتمع والإساءة للدين بسبب توظيفه من طرف كل من هب ودب من مدعيّ الإسلام والجماعات الإسلاموية ،وبالرغم من التجربة التركية مع أردوغان وحديثه الواضح بأن حزبه ذي المرجعية الإسلامية يحكم في دولة علمانية ،وبالرغم من واقع المجتمعات الغربية وهو واقع يؤكد أن العلمانية صانت الدين المسيحي من العبث ووفرت متطلبات ممارسة الشعائر الدينية بحرية ،بالرغم من كل ذلك فإن البعض ما زال يكابر ويعاند ويرفض الاعتراف بأن شكلا من العلمانية أو الدولة المدنية التي تُحيد الدين عن الخلافات والصراعات السياسية هو الحل للخروج من حالة الفوضى والدمار التي تسببها حروب الجماعات الإسلاموية ،وأن في العلمانية والدولة المدنية صالح الإسلام والمسلمين وصالح الدولة والاستقرار والسلم المجتمعي .
لأن العقل العربي يستسهل التعامل مع أقانيم جامدة ومورثة ،ويفضل النقل على العقل ،فهو غير مستعد لمناقشة هادئة وعقلانية للعلاقة بين الدين والسياسة وإعادة النظر في مفاهيم وتفسيرات الأولين الذين اجتهدوا في زمان غير زماننا ، فما زال للعلمانية في العالم الإسلامي وخصوصا العربي سمعة سيئة ،بل البعض يماهي عن جهل بينها وبين الكفر ،وآخرون يزعمون بوجود فرق بين الديانة الإسلامية والديانة المسيحية حيث يزعمون عدم وجود كهنوتية في الإسلام وأن الإسلام دين ودنيا ولا يمكن الفصل فيه بين الدين والدولة ،مما يُقصي التفكير بالعلمانية كما جرى عند المسيحيين الخ .
بالتأكيد فإن المشكلة لا تكمن في الإسلام بحد ذاته بل في المسلمين وتجار دين يوظفوا الإسلام ويفسروه لخدمة مصالحهم الدنيوية حتى وإن أضفوا عليها مسحة دينية ،وفي ثقافة متوارَثة تتبنى تفسيرات مغلوطة عن الإسلام والسلطة والحكم وتطغى فيها ثقافة العصبية الصحراوية على ثقافة الإسلام المتسامحة والوسطية ،أيضا في رجال دين وجماعات إسلاموية يرتزقون من وراء الدين وفرضه على الحياة السياسية ،وفي أنظمة حكم توظف الدين لتبرير استبدادها وكسب الطاعة من منطلق أن "طاعة ولي الأمر من طاعة الله" .
يمكن إرجاع الإرهاصات الأولى لاختلاط والتباس العلاقة ما بين الدين والسياسة في العالم الإسلامي بعد وفاة الرسول مباشرة في اجتماع السقيفه ،وأصبح أكثر تجليا منذ مقتل عثمان بن عفان والفتنة الكبرى.فالخلاف بين على ومعاوية لم يكن لأسباب دينية بل صراعا على السلطة والجاه ،وهي المرحلة التي قال عنها العلامة ابن خلدون إن الخلافة منذ عهد معاوية تحولت لمُلك كمُلك العجم .
اليوم وبعد كل ما نشاهده ونعيشه من خراب ودمار سببه جماعات دينية متعصبة قتلت من المسلمين اضعاف ما قتلت من غير المسلمين ،ودمرت الدولة الوطنية ونسيج المجتمع دون أي أفق لإمكانية قيام دولة الخلافة الموعودة ،اليوم نحن بحاجة لثورة دينية ،ليس ثورة على الدين الإسلامي بل على مدعيّ الدين والمتاجرين فيه ،ثورة لإعادة موضعة الدين في الحياة السياسية على أسس جديدة تخدم الإسلام والدولة والمجتمع دون تعارض أو تضارب بينهم .
العلمانية أو الدولة المدنية ليست كفرا بل هي شكل من أشكال إدارة الدولة والمجتمع تقوم على أساس منع أحد من احتكار الدين وتفسيره وتبرير سلطته السياسية أو سعيه للسلطة السياسية على أساس المرجعية الدينية ،أو بصيغة أخرى تحييد الدين عن الصراعات الحزبية والسياسية ،ذلك أن رب العالمين لم يفوض سلطته لأحد أو يكلف أحدا بعينه لتطبيق شريعته سياسيا ،لذا فالدين لا يمنح شرعية سياسية لأحد ،كما أن حفظ الإسلام وتوقيره لا يتأتى عن طريق الجماعات الإسلاموية ولا عن طريق الدولة ،بل بالتربية والتوعية والإرشاد دون قهر أو إكراه ،وما حفَظَ الإسلام طوال ألف وأربعمائة عام ليس الجماعات الإسلاموية ولا أنظمة تزعم بأنها إسلامية ،بل لأنه دين الفطرة وإيمان مزروع في قلوب المؤمنين به .
د/ إبراهيم أبراش