أنتظرت ذلك اليوم كثيرا، يوم تحرير الموصل وقلبي يدق فرحا لعودة العراقيين لديارهم مرفوعين الرأس، ولكن عقلي كان يفكر دائما فى المرحلة الاهم، الا وهي مرحلة "ما بعد داعش"، فلا أخفي عليكم تحرير الموصل لم يكن يتم الا بموافقة وعلم وتخطيط الولايات المتحدة الامريكية، وأنا هنا لا ابخس مجهود الجيش العراقي وتضحيات الشعب العراقي العظيم فى حربه ضد الارهاب، ولكن أتناول قراءة المشهد بعقلانية بحتة بعيدة عن العواطف، وعلينا أن نتسأل لماذا تقوم القوات الامريكية بسوريا على توجيه ضربات لتجمعات وتمركزات الجيش العربي السوري كُلَّما حقق أنتصارا ملموسا على الارض، أو بالادق أذا فرض تواجده فى مناطق خارج النطاق المسموح له بخريطة واشنطن وتل أبيب لسوريا، فى مقابل أعطاء الضوء الاخضر للجيش العراقي ومن قبله الحشد الشعبي، بل وهى من سمحت بولادة مكون الحشد الشعبي ودعمته بالسلاح ايضا، مع العلم أن الحشد هو جناح ايران التى يفترض انها عدو الولايات المتحدة وحلفائها بالمنطقة.
من يتأمل المشهد جيدا سيرى أن تنظيم داعش (النسخة الحديثة من بلاك ووتر فى زيه ولحيته الاسلامية) حقق الهدف المطلوب منه على أكمل وجه، من أستنزاف الجيوش النظامية، تدمير مدن وقرى كاملة، تهجير سكانها، محو تاريخ حضارات مثلت عقدة لدى دويلات حديثة صنعتها بريطانيا منذ أقل من قرن فى مقدمتها اسرائيل، نشر الفكر الاصولي فى دول كانت تنفرد بعلمانيتها وسط دول أصولية سواء كانت (أصولية يهودية أو شيعية أو سنية)، وأخيرا وهو الاهم تمهيد الارض لحضور الولايات المتحدة، ونعم قد أتى العم سام ولكن لم يأتى وحده، فقد جاء معه الدب الروسي كي يشكل نوع من التوازن على حلبة الصراع بالشرق، ولكن ماذا بعد تحرير العراق، هل أنتهى أمر الحرب بها، أم أن هناك صفحات جديدة مكتوبة بالحبر السري مكتوبة مسبقا كي لا تقرأها العين المجردة.
حقيقة الامر تراهن الولايات المتحدة على خلق صراع جديد بمرحلة "ما بعد داعش" فى العراق وسوريا أيضا، يكون فيها شكل الصراع أشبه بعملية طحن واسعة لكل المكونات المتواجدة على الارض العراقية أو السورية ومن يدعمها من الخارج ايضا، فهي بأختصار تراهن على أن تكون العراق ساحة للصراع المباشر بين ايران والسعودية، فالبحرين بحكم جغرافيتها ومساحتها لا تتحمل أستقبال مثل ذلك الصراع، فتحرك صغير لبعض العناصر التخريبية بالمنامة يؤدى الى حالة توتر بكافة أرجاء المدينة، وكتيبة واحدة من قوات درع الجزيرة تكفي لتأمين البحرين كلها، ولكن العراق وما أدرك جغرافية ومكونات بلاد الرافدين أمرا أخر، ولذلك كانت بداية المخطط (الشرق الاوسط الجديد) من بغداد وليس من القاهرة أو دمشق، فواشنطن أتت بأرجل طهران وذراعها الحشد الشعبي الى المحافظات السنية كالانبار والموصل وتكريت وديالي والرمادي (المناطق التى لا يوجد بها حاضنة شعبية شيعية للحشد الشعبي)، وفى نفس الوقت اعطت الضوء الاخضر للامير الشاب محمد بن سلمان للدخول فى صراع مباشر مع ايران، وعدم الاقتصار على دعم المعارضة الايرانية بأوروبا بقيادة مريم رجوي التى لم يعد لها تأثير كبير لدي محركي المشهد، وهيأت له الملعب كي يسدد الكورة فى مرمى الخصم، بعد أن كلفت واشنطن مايكل اندريا مدير عمليات الاستخبارات المركزية الامريكية بأيران، والشهير بأسم "أية الله مايك" (أبرز مهامه المشاركة فى تدبير أغتيال عماد مغنية القيادي البارز بحزب الله) بأنشاء مركز جديد خاص بجمع المعلومات الاستخباراتية حول إيران وتحليلها، بينما جائت حركة الرياض فى كل أتجاه، فتواصلت الرياض مع جيش العدل بباكستان (حدود ايران الشرقية)، ومن قبلهم عرب الاحواز (حدود ايران الجنوبية)، وحاليا اكراد ايران "البيجاك" (حدود ايران الغربية)، واذرابيجان التى تمثل نقطة تمركز اسرائيل بالقوقاز (حدود ايران الشمالية).
والان واشنطن تفتح ملعب العراق للتواجد السعودي لمواجهة المد الايراني، وأعتقد أن تحية رئيس وزراء العراق حيدر العبادي أثناء خطاب تحرير الموصل لعلي السيستاني، سيعجل من نزول السعودية بثقلها فى العراق.
والامر هنا لن يقتصر على ايران والسعودية، على سنة وشيعة فقط، بل ننتظر أيضا وضع الاكراد فى المعادلة الجديدة، خاصة بعد أعلان اقليم كردستان العراق تنظيم استفتاء يوم 25 سبتمبر المقبل للانفصال عن العراق، وتكمن خطورة تلك الخطوة فى ظل ما يحققه الاكراد من تقدم بالميدان السوري فى ظل دعم وتخطيط أمريكي، ومن يدقق النظر يلاحظ أن اغلب ان لم يكن جميع القرى أو البلدات التى كان ينسحب منها داعش فى سوريا كان الاكراد يحلو مكانهم، قبل أن تنقل الطائرات الامريكية قيادات داعش من مكان لاخر، وبعد سيطرة الاكراد على أي بقعة كانت تتواجد بها امريكا عسكريا، فالقواعد العسكرية الامريكية بسوريا هي بأراضي تحت سيطرة الاكراد، بل الأدهى من ذلك عندما أعلن البيشمركة صراحة عدم تركهم لاي قرية او بلدة تركها داعش لهم، أو حرروها حتى لو لم يعيش في فى تلك القري كردي واحد.
كما يأتى ذلك كتعقيد جديد على تركيا، ومستقبل قواتها بمعسكر بعشيقة بالعراق، واذا كانت فى سوريا متشبثة بمدينة الباب واعزاز وجرابلس ومارع، فماذا بعد عن شمال سوريا الذى لن يتحمل الاكراد والاتراك معا، والى أي مدى سيذهب عقل الاردن تجاه السويداء، واسرائيل تجاه وادي اليرموك والقنيطرة.
الصدام العربي القطري أيضا وما سينتج عنه مستقبلا من نقل تمركز جماعة الاخوان المسلمون الى دولة أخرى بعد قطر، خاصة لو كانت تلك الدولة ايران، سيكون أمر هام فى تداعيات ذلك المشهد، وحينها سيكون أنسب وقت لظهور الناتو الشرق أوسطي او الناتو العربي لمواجهة أيران.
وأخشى أن كان تحرير الموصل كتب نهاية دولة الخلافة أو بالاحرى الخرافة المسماة بداعش، والتى ينطقها لسان لندن السياسي و الاعلامي بأسم الدولة الاسلامية وليس تنظيم داعش الارهابي، بأن يكتب شهادة ميلاد لدولة جديدة قد تكون هى مشروع المستقبل لدى قوى أقليمية بعينها، خاصة وأن فى تلك المرة التى يحاول فيها الاكراد تأسيس دولتهم تقف خلفهم اسرائيل الحاضرة فى كل المشاهد التى تحدث فى المنطقة منذ غزو العراق 2003م، وهى المستفيد الوحيد من كل ما يحدث بالمنطقة، ولا نبالغ لو قلنا ان أيديها المخربة لم تكن بعيدة عن أي دولة طالها الخراب والفوضى، فاسرائيل تتعامل مع المشروع الكردي على أنه خط التماس لها من جهة الشمال، فى الدولة اليهودية الكبرى من الفرات للنيل، وها هم الاكراد أفضل حراس بحدود تلك الدولة تجاه الفرات.
خلاصة القول الحرب لم ولن تنتهي بعد، وأن جغرافية المعركة ستتسع، وبتأكيد هنا سيتغير شكلها ولن تقتصر على كونها حرب ضد الارهاب، وقد تخرج خارج نطاق الحروب ضد العصابات الى نطاق أوسع بكثير، وتذكرو حينما قلنا أن عام 2010م كان أخر الاعوام الهادئة بأقليم الشرق الاوسط.
بقلم/ فادى عيد