البحر ورمزية المعرفة الإنسانية في رواية أرواد للكاتب اللبناني محمود عثمان.

بقلم: مادونا عسكر

إذا كان البحر قد عبر في الأدب العربي بشكل عام عن الحياة بصراعاتها وتجاذباتها، فإنه في رواية أرواد يمثل وطنا خاصا لمصطفى البطريق، القبطان الذي لا ينتمي إلى مكان، الذي قادته الحياة فقادها سفينة تبحر ولا تصل ولا تريد العودة. مصطفى البطريق، الأروادي الأصل الذي عاش في الميناء الطرابلسي، أبحر في الحياة قبطانا مدمنا السفر والخمر والنساء. وسيكتشف القارئ في هذه الرواية شخصية حملت في ذاتها اختبارات حياتية جمة واستخرجت حكمتها من البحر، واستخلصت منه خلاصة الحياة. بل كان له عالم خاص حميم صقل خبرته بالعرق والدم.
لكل نص روائي بحره يقول الناقد المغربي إبراهيم أولحيان. ولهذا النص الروائي بحره الذي رمز إلى الحياة بكل مراحلها وأشكالها. وتعامل معه الكاتب كوصف من الرموز التي لا يمكن القبض عليها إلا بارتباطها بشخصية القبطان مصطفى البطريق. فالبحر بدلالته الحركية المصورة للولادة والتحولات والإحياء، ارتبط بالقبطان حتى أصبح البحر أشبه بتوأمه. يحيا مثله بحركة دائمة مستمرة، تتضمنها التقلبات، والهزائم والانتصارات. ناهيك عن أنه استعان برمزية البحر ليستخلص منه أسرار الحياة من حيث العمق الفكري والقيمي والإنساني. ولعل الكاتب أخفى ذاته وراء الشخصية الرئيسية القبطان ليعبر عن فكره الخاص وهواجسه المتعلقة بالدين، والحب، والأخلاق، والسياسة... فأتى النص الروائي مشبعا بالتساؤلات التي يمكن أن تستفز القارئ، أو توخز ضميره الإنساني، وتضعه أمام ذاته ليعيد النظر في اعتقاداته وقناعاته الموروثة. وتحثه على تفحص واقعه العام والخاص الذي لم يتغير بفعل تشبثه بشعارات بالية استهلكها العقل دون فعالية.
يبدو القبطان مصطفى البطريق للقارئ شخصا مشبعا بالخبرة، مطلعا على الأمور بتفاصيلها الدقيقة. يحكي سيرة حياته لأستاذ يرافقه في جميع فصول الرواية تقريبا. وكأني به رفيق القبطان المبحر بسفينته بطريقة عكسية إلى الذكريات المحملة بالفرح والحزن، الانتصار والهزيمة، الحكمة والجهل، الحب والتخلي... وفي شتى الحوارات القائمة بينهما، يلمس القارئ قسوة الواقع الإنساني الذي يرفضه القبطان، ويعبر عن هذا الرفض بأسلوب بسيط غير منمق، وقد يميل إلى البذاءة أحيانا. فيشمئز القارئ تارة منه، وطورا ينغمس في القراءة وكأنه أمام مرآة تعكس أسلوبه المماثل في تعبيره عن الرفض. وإن دل هذا الأمر على شيء، فهو يدل على شخصية القبطان التي شكلها البحر، من حيث التأثير البنيوي النفسي وتركيبة الشخصية المماثلة بشكل أو بآخر للبحر. فتارة يتلمس القارئ هدوء القبطان وحكمته وانفتاحه، وتارة هيجانه وثورته، وطورا تقلباته العاطفية والنفسية. وها هو في سرده لأحداث حياته، يقذف أدرانه إلى السطح ليحافظ على نقائه الداخلي، كما يعبر عنه في بوح لرفيقه
حنت نفسي إلى سفوحكم. جاعت روحي إلى جبالكم. قلبي يصلي متجها إلى قبلته الخضراء. حيث تستريح قريتكم على ذاك المنحنى الشامخ. تعال نعيد معا في الغابات والسفوح والأودية. إن جبالكم بحر آخر، زاخر بأمواجه، لا نهائي الزرقة والجمال. 75.
على الرغم من أن البحر، هذا العالم العائم، أكبر من أن نحيط به، كما يذكر الروائي حنا مينة، إلا أن القبطان عبر عن انصهار شبه تام به، إذ إنه لم يغلب يوما ولم يستعص عليه أمر، بل كان دائما أشبه بالبحر الذي يتميز بالسيطرة والنفوذ.
أقسم لك، أنا السندباد البحري الذي انتصر على الحوادث الطارئة، ونجح في كل امتحانات الحياة، إني لم أفشل إلا في حياتي الزوجية. وكم أنا مزهو بهذا الفشل، فالسقوط عند أقدام أم فريد انتصارص94.
القبطان العاشق، المدمن على النساء، المتفلت من كل قيد إلا من قيد واحد، ألا وهو الحب الذي حفظه في قلبه لامرأة بلغارية لم تعتبره سوى أخ. ظل حاملا في عمقه طيفها وشوقه إليها ورغبته في اقتحام بحرها. ولعل هذا الحب دل على إنسانية القبطان العميقة التي قلما تظهر في الرواية من حيث بروز صلابته التي لا يمكن هزمها. فالقبطان الذي اكتسب خبرته بالعرق والدم، والذي لم يرتبط إلا بالبحر، يحتفظ بداخله بإنسانية عاشقة شكلت توازنا في الشخصية لتخلق بحر القبطان الخاص الذي حاول أن يرسو على شاطئه ولم يقو إلا في لحظة هذيان الموت
الليلة زارتني كيتي وزرتها. سرنا معا والثلج يخشخش تحت أقدامنا في أزقة بورغاس وأسواقها... كانت كيتي مبتسمة تلف شالا من الكشمير حول عنقها. والثلج ينهمر على شعرها وكتفيها... تسلقت وإياها الهضبة المشرفة على المدينة والبحر. وجدنا هناك كنيسة تختفي بين الأشجار. قالت تعال ندخلها لنصلي. تعال نوقد أمام المذبح شمعة حبنا الأخيرة بأصابعنا العشرة. صرخت لا. سنصلي في العراء. وسنمشي عراة في الثلج. إن أبانا السماوي سيكون في غاية السرور إذ نسجد له بين الأشجار أو نقف متعانقين متأوهين من البرد والحب. ص101.
سيجلي هذا المشهد في النص الروائي عن القبطان هم الشوق والتوق إلى الحبيبة. وسيبدل نظرة القارئ إليه. فمن قبطان ماجن، عاشر العاهرات، وقصد المواخير والحانات، إلى قبطان حالم بعري الحب الذي تاق إليه. فيرتد هذا المشهد عكسيا ليبدل مفاهيم ظهرت في الرواية عن الحب والجنس، ويدل على إنسانية ظامئة إلى حب أعمق من المتعارف عليه. ولعل الصلاة في العراء توحي إلى الحب المنطلق بلا حدود، كالبحر الذي حدوده زرقة السماء.
كما أن هذا المشهد سيعزز وجهة نظر القبطان للعالم الإلهي. فالقبطان الذي لم ينتم إلى مكان، لا يظهر في الرواية منتميا إلى عالم ديني خاص. بل إنه منفتح على الله بروح طفل وحكمة عجوز، ليعبر عن حرية إيمانية متفلتة من التعصب والتشدد والارتباط بالمكان والطقوس والشعائر
أنا العجوز الذي لم يحلل شيئا ولم يحرم في حياته شيئا. ولكنني أؤمن بالله. لا يمكن لإله عظيم أن يضع عقله في عقل مخلوق حقير مثلي. إنه سيسامحني على ذنوبي الصغيرة والكبيرة... الأب يا أستاذي العزيز، لا يميز بين أبنائه، بل ينظر بعطف زائد إلى ولده الأزعر. وكذلك هو الله، له المثل الأعلى. لن يميز بين من يصلب له بالثلاثة أو بالخمسة، ولا بين من يصلي واقفا أو راكعا. المهم أن يصلي بقلب خاشع. ربنا لا يؤاخذ الطفل الذي يقلب الراء لاما وهو يتلو سورة الفاتحة، أو الطفل الذي يغمغم وهو يصلي الأبانا... ربنا ينظر إلى قلب الطفل ووجهه البريء. ص 5556.
مصطفى البطريق الذي اصطفاه أبوه ليصبح بحارا مثله، فأصبح قبطان سفينة. قاده البحر إلى عالمه المتناقض المتقلب المزدحم بالمفاهيم والهواجس، فقاده هو في حياة استحكم فيها مصطفى البطريق حتى النهاية.


لعل الكاتب في هذه الرواية كتب روايته وهو محمل بالعديد من الإشارات الثقافية والخبرات الإنسانية من أسطورة السندباد إلى رمزية البحر الكونية والصوفية، وكذلك الدينية والأعمال السردية والشعرية، ليصنع بحرا خاصا، أبحر فيه بسفينة التجربة الشخصية التي دلت على عمق التأثر والتأثير، لينتج عملا أدبيا يستدعي كل ذلك ويشير إليه.


الرواية من منشورات ضفاف في بيروت ودار الأمان في الرابط 2017.
نبذة عن الكاتب مواليد 1969، بيت الفقس الضنية. حائز دكتوراه دولة في الحقوق وإجازة في اللغة العربية من الجامعة اللبنانية. أستاذ متفرغ في كلية الحقوق. صدر له ست مجموعات شعرية وأربعة كتب في النثر والرواية وأربعة كتب في القانون.

مادونا عسكر لبنان