في لقاء جمعني مع الشّاعرة فدوى طوقان قبل أكثر من عشرين عاما، يوم كنت طالبا في الدّراسات العليا، وكنّا يومئذ نُعدّ لحوار مع الشّاعرة أنا وزميلان لي، ونشر لاحقا في مجلّة "نوافذ" (توقّفت عن الصّدور)، سألناها عن رأيها في الدّين، فقالت: لم يقنعني، أو بهذا المعنى، ولم تزد على جملة واحدة، ومع أنّ الشّاعرة طوقان لها قصيدة "أمام الباب المغلق" وقد يحلو للبعض تفسيرها، وإخراج الشّاعرة على أنّها ملحدة، إلّا أنّها لم تكن تجاهر بعدائها للدّين أو نصوصه، أو حتّى تسخر كما يفعل هؤلاء من بعض تلك النّصوص الّتي لا تراها في نظرها "منطقيّة"، كانت مقتنعة تمام القناعة بقول الشّاعر:
مالي وللنّاسِ، كمْ يَلْحَوْنَني سَفَهاً | دِيني لنفْسي ودينُ النّاسِ للنّاس |
وعلى الرّغم من أنّ مسألة الدّين ونصوصه مشكلة كبرى في عقول المثقّفين، وخاصّة الشّعراء، وتذكّر بظاهرة الشّعراء الزّنادقة، ممّن يظنّون سفها أنّ باستطاعتهم الحكم على النّصوص ومسائلها، ذلك العلم الّذي أنفق فيه العلماء الأفذاذ أقصى الجهد والطّاقة، وكانوا حريصين على صدق النّصّ وصحته، وأنّه قد ورد عن الرّسول صلّى الله عليه وسلم إلّا أنّهم يجتهدون خطأ بل سفها في الحكم على النّصوص وموضوعاتها الغيبيّة، فيعتقدون أنّ من حقّهم الحكم على تلك النّصوص وردّها، وهم جهلة في كثير من العلوم الّتي تؤهّلهم للحكم، وهذا باب واسع، وله أصوله المعتبرة، بل يمتدّ بهم الغباء ليسخروا ممّن يعارضهم، فيصفونه بالشّيخ، تقليلا من شأنه واحتقاره.
يتّكئ هؤلاء الشّعراء الّذين لم يحصّلوا علما صحيحا، ولا رأيا عقليّا سليما، ولا يمتلكون طريقة قويمة للتّفكير، على أنّ هذه النّصوص، وخاصّة الحديث الشّريف لم يرد عن الرّسول عليه السّلام، وأنّ الطّريقة الّتي وصل فيها طريقة تجعلهم يشكّكون في ذلك، بناء على تعدّد الرّوايات، مع أنّ تعدّد الرّوايات للحديث الواحد، كما يقول محمد عابد الجابري دليل صحّة ووجود، وليس دليل تكذيب ونفي: "والمصادر الإسلاميّة مادّتها الأساسيّة هي الرّوايات. وهي، في جملتها، يطبعها الاختلاف إلى حدّ التّناقض أحيانا. ومع أنّ اختلافها قد يدفع بعض الباحثين إلى الشّكّ في صحّة ما ترويه، كلّا أو بعضا، فإنّنا نرى، بالعكس من ذلك، أنّ هذه الاختلافات دليل صحّتها ككلّ. فالاختلافات هنا كاختلاف شهادات أناس حضروا حادثة سيّارة أو سمعوا ممّن حضرها. وبما أنّ المفروض – بل هذا هو الواقع فعلا- أنّ أيّا منهم لم يكن قد كلّف نفسه بتسجيل وقائع الحادثة كتابة على ورق – كما يفعل المحقّقون من رجال الشّرطة- وإنّما يصفون، كلّ من زاويته الخاصّة، جزءا أو أجزاء حيّة من المشهد، بوصفه حادثة إنسانيّة يكتنفها ما يرافق الحوادث الإنسانيّة عادة" ويقرّر الجابري بعد هذا الشّرح المسهب أنّ "تعدّدها دليل على صدق ما ترويه، لا كأجزاء وتفاصيل، بل كحدث أو حادثة. ذلك أنّ الخبر الموضوع، الكاذب، المختلق، لا يكون في الوقت نفسه، متعدّدا" (مدخل إلى القرآن الكريم، ج1، ص25).
إن الشّعراء الملحدين السّاخرين من الدّين ونصوصه، وهم كثر، يدّعون المعرفة، ويرون أنّ لهم حقّ الاختلاف، والنّظر في هذه المسائل ورفضها، والتّشكيك فيها، وهم معدومو الأسس والعلوم والبيّنات، والطّريقة السّليمة للبحث، وإنّما هي "موضة" وسنّة متّبعة لديهم، لرفض الدّين جملة وتفصيلا وأنّه لا يقنعهم، هكذا دون نقاش علميّ موضوعيّ، أو ربّما يريدون التّفلّت من النّصوص، ليظهروا بمظهر المتمرّد، الثّائر، النّاقم على ما يسموّنه التّراث والماضويّة العقليّة والتّخلّف، لينتهوا إلى كائنات عديمة التّفكير، لم تحصّل علما ولا تفكيرا سليما.
إن جزءا من هؤلاء الشّعراء، ومعهم غيرهم من المثقّفين، أو مدّعي الثّقافة، لا يؤمنون، كما يقولون إلا بما جاء به القرآن الكريم، مع أنّ القرآن الكريم يدعوهم إلى الإيمان بقول الحديث الشّريف، ولكنّهم لأنّهم لا يعلمون، ولم يقرأوا القرآن الكريم، ولم يتدبّروه، يقعون في مثل هذه التّناقضات العجيبة، عدا أنّهم يطلقون العنان لشياطينهم ليفسّروا النّصّ القرآنيّ بما لا يقوله، ولا يقبله منطق القرآن نفسه، وكأنّهم لم يقرأوا "فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون"، إنّهم جمهرة من الأدعياء المتطفّلين على النّصّ المقدّس، يفرّغونه من جماليّة المعنى وسموّ الأفكار، كأنّه لا يكفيهم تطفّلهم على الشّعر، بل لا بدّ من الزّركشة الإلحاديّة، فالموضة الرّائجة هي الشّكّ والإلحاد، وادّعاء التّفكير الحرّ المتحرّر!
إنّ هؤلاء الشّعراء بالمجمل متناقضون أيضا من باب آخر، في حين أنّهم يسلّمون بنظريّات أقدم من الحديث والقرآن وتعود إلى مئات السّنين قبل الإسلام، ولم تصل إلينا بالدّقة والحرص الّذي وصلت به النّصوص الدّينيّة، إلّا أنّهم يدافعون عنها دفاعا مستميتا، بينما تراهم يناصبون الدّين ونصوصه العداء بحجّة أنّها غير صحيحة، ولا يعترفون بها، فيقبلون آراء سقراط وأفلاطون وأرسطو، ويبنون عليها المؤلّفات والرّؤى، ويشكّكون في النّصوص الدّينيّة، ويتّهمون العلماء الّذين بذلوا أقصى الجهد والطاقة في الحرص على نقل الصّواب من الحديث وأمور الدّين، ويتفنّنون في اختراع نظريّات الشّكّ، فقط لأنّهم لا يريدون الدّين، وكان بإمكانهم الإلحاد دون كلّ تلك البحوث الخاوية من المعنى.
لا شكّ في أنّ هناك شعراء مفكّرون، يستحقّون الاحترام والتّبجيل، فهم فلاسفة، أفاضوا في البحث والتّنقيب والمناقشة، وتوصلّوا إلى ما توصلّوا إليه من أفكار وقناعات، وهؤلاء قلّة قليلة ونادرة، ولكنّ الأكثريّة الّتي عليها شعراء اليوم ما هم إلّا كائنات لا تحسن التّفكير، ولم يوظّفوا هذه الجوهرة الممنوحة لهم، وظنّوا أنّ حفظ مقولة من هنا أو من هناك في جلسات أمثالهم العابرة، تجعلهم يحصلّون طريقة مثلى للتّفكير. إنّهم كما قال المثل: ضغث على إبّالة، ليس أكثر، ومن كانت هذه حاله، من عدم امتلاك أسس التّفكير الصّحيحة والسّليمة، لن ينفعوا الشّعر ولا الشّعراء، ولن يكونوا إلّا كإضافات الصّفحات الفارغة في سجل الإبداع، سيأتي يوم ويتمّ التّخلص منها في سلّة المهملات.
وأخيرا، لا بدّ من توضيح مسألة مهمّة، أنّ لكل إنسان الحقّ فيما يعتقد أو يرى، ويجبّ ألّا يحاسب أحد أحدا على اعتقاد اعتقده، ولكن من حقّ الآخرين المخالفين لهم، أن يقفوا منهم موقف العداء والرفض لما يحملون من ترّهات لا يسندها فكر، وما هي إلّا الأباطيل، ورجم من الوهم المفضي إلى العدم. وليس في هذا التّوصيف السّابق مصادرة لحقّ الاختلاف كما قد يدّعي البعض أو يتوهّم، ولكن لا بدّ من أن تكون على علم بما تقول، وألّا تكون كما قال الشّاعر:
يقول ما قالا له | كما تقول الببّغا |