هل القدس والأقصى خط أحمر فعلاً؟

بقلم: حسن شامي

في بيانها الصادر للتنديد بالممارسات الإسرائيلية بعد يومين أو ثلاثة على اندلاع الاحتجاجات والمواجهات في محيط المسجد الأقصى، اعتبرت جامعة الدول العربية أن القدس خط أحمر. نعلم أن المقصود بالعبارة لا يتعلق بتوصيفات لتلوين الحدود الجغرافية كما هي حال الخط الأخضر، بل يتعلق بالمكانة الرمزية والدينية للقدس باعتبارها حاضنة مقدسات الديانات الثلاث.

الخط الأحمر يعني إذاً أن الاعتداء على باحة المسجد الأقصى من خلال نصب بوابات إلكترونية للكشف عن المعادن هو بمثابة اعتداء على الموضع الأكثر حميميةً وقدسيةً في وجدان الأمة المفترضة والتحكم بطرائق وسلوكات العبادة وتأدية الصلوات. ويفهم من هذا أن ثمة ما ينذر بانفجارات واضطرابات تتجاوز رقعة المواجهة المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين لتشمل المنطقة كلها، بل حتى العالم، بحسب ما حذّر غير مسؤول وديبلوماسي عربي وإسلامي. وقد جدد الأمين العام للجامعة العربية قبل ثلاثة أيام تحذيره الإسرائيليين من مغبة تجاوز الخط الأحمر متهماً إسرائيل بإثارة حرب دينية. وهذا ما لا يريده أحد ولا طاقة للأمة أو الأمم الإسلامية على تحمّله.

كانت هذه الصرخة واجبة وأفضل من اللامبالاة في زمن الحرائق المتنقلة في طول المنطقة وعرضها. مع ذلك يمكن أي قارئ للبيان المذكور أن يستنتج، ليس من دون بعض الخبث، أن ما يقع خارج الخط الأحمر أو دونه سيكون من ألوان أخرى معتمدة في لغة العلاقات والنزاعات بين الدول والكيانات. وهي عموماً تتراوح بين الأصفر والأخضر وما بينهما من خلطات تلوينية بمقادير معينة. والحال أن ما يقع خارج الخط الأحمر هو، ببساطة، الواقع الفلسطيني برمّته. سيكون ضرباً من التحامل أن نستخرج معادلة من نوع: نتفهم طموحاتكم للسيطرة على الواقع، بحجره وبشره، فهذا ما يمكننا أن نتحمّله وأن نروّض أنفسنا عليه متجرّعين ما تيسّر من الواقعية السياسية ولكن لا تمسّوا الرموز. يستحسن، لتفادي التحامل، أن نعتبر عبارة الخط الأحمر مجرّد استعارة مأخوذة كيفما اتفق من لغة العصر وقاموس صانعي المصائر وراسمي الخطوط الحمراء المستندين إلى القدرة على فرضها ومعاقبة مخالفيها. أما السؤال عن العلاقة بين الواقع المعيوش والرمز فهو بات ضرباً من ترف الحالمين ببعض التماسك المنطقي، والمعرفي استطراداً.

ثمة في الإدارة الإسرائيلية وفي الإدارات الغربية من يعرف أهمية هذه العلاقة. فهؤلاء حفظوا عن ظهر قلب معادلة مكيافيلي المتحدثة عن ضرورة تقدير التناسب بين القمع السلطوي وقدرة الجسم على التحمّل. ونرجح أنهم ضغطوا على نتانياهو وحكومته للتراجع عن خطوته المتهوّرة والرعناء. أزالت الحكومة الإسرائيلية البوابات الإلكترونية من مداخل المسجد الأقصى، ولا نستــبعد أن تؤجل إلى فترة لاحقة نصب الكاميرات وإجراءات الرقابة "الأمنية" على باحة المسجد. لكنها بالتأكيد لن تتخلى عن مشروعها بفرض الســـيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية وضمّها تمهيداً لجعلها العاصمة الأبدية للدولة العبرية. فقبل أسابيع فقط أعلن نتانياهو أن الجيش الإسرائيلي لم يحتل القدس الشرقية في حرب 1967 بل حرّرها، وسيبني على الشيء المحرّر مقتضاه.

الفلسطينيون يواجهون بشجاعة من دون تعويل حقيقي على أصدقاء وأخوة مفترضين. وقد تجددت المواجهات بين آلاف المصلين والقوات الإسرائيلية وأصيب العشرات من الفلسطينيين، على رغم إزالة السلطات الإسرائيلية تدابيرها الرقابية من باحة المسجد ومداخله، وعلى ارتفاع أصوات الانتصار على المشروع الإسرائيلي. ومن غير المستبعد، لحظة كتابة هذه السطور، أن يكون يوم الجمعة يوماً ساخناً وربما مشهوداً. لا أحد يعرف ما يمكن أن يتوالد على أرضية شجاعة قدرية من هذا النوع. فعلاوة على أن الشجاعة معدية وأن المواجهات الموضعية والظرفية قابلة للتحول إلى فعل سياسي يزعزع المعادلات القائمة، لا نستبعد أن تعيد المواجهات صياغة العلاقة بين رمزية المسجد والمقدسات وبين واقع الاحتلال والاستيطان الزاحف. يخشى كثيرون أن تتعاظم الانتفاضة الفلسطينية وأن تدير الظهر لكل الإرشادات الواقعية. فرمزية المكان لا تنفصل في حياة المقدسيين، والفلسطينيين عموماً، عن واقع الاحتلال والقضم الاستيطاني والعراضات الدورية التي يقوم بها مستوطنون في باحة المسجد، وتسميم حياتهم بكل الوسائل والمقادير المناسبة، من دون براميل متفــجرة ولا استعراضات للعنف المتوحش على طريقة داعش. الرهان الإسرائيلي هو باختصار أنه يمكن وأد قضية فلسطين بهدوء، بطريقة تربوية إذا جازت العبارة. ههنا يكمن صلف الإصرار على القتل السياسي للفلسطينيين. ويمكن تسويق مثل هذا الصلف في بلدان وعواصم القرار بدعوى أنه أرقى بكثير من الفظائع التي تضخها نزاعات المنطقة وحروبها الأهلية وانهيارات هياكلها الوطنية.

تمتلك الدولة العبرية رصيداً كبيراً في العالم الغربي وتعوّل عليه في نهاية المطاف. وفي هذا الرصيد تختلط مشاعر الذنب بسبب المحرقة اليهودية بالوظيفة السياسية لاستراتيجيات السيطرة وتثبيت التبعية في مرحلة ما بعد الاستقلالات الوطنية، إضافة إلى وجوه التشابه والإحالات الصارخة بين الدولة الاستيطانية التوسعية الناشئة في أعقاب الحرب الثانية وبين التجربة أو التجارب الكولونيالية الغربية، خصوصاً الفرنسية والإنكليزية.

في هذا المعنى تخاطب الدولة العبرية على نحو خاص البعد الكولونيالي وإرثه الملتبس في التاريخ الغربي الحديث. وليس من قبيل المصادفة أن تحظى إسرائيل أكثر من أي وقت مضى بتأييد عملي من الغربيين، وأن يترافق ذلك مع ازدهار الخطابات المتحدثة عن النتائج الإيجابية للحقبة الاستعمارية وسياساتها. بهذه الطريقة التي تعتصر بفهلوية دعوية فاقعة اختلافات الظروف والمعطيات والمراحل تنشأ شراكة وجودية بل حتى هوياتية، على رغم القرع المستمر حول فردانية المحرقة وخصوصية الشعب والمسألة اليهوديين.

لا ينبغي أن نستغرب في هذه الحال فرض التطابق بين ما يواجهه الغرب وبين صراع الإسرائيليين مع الفلسطينيين والعرب. هكذا هي الحال مثلاً مع موضوعة الإرهاب المرفوعة علماً وراية كونيين. فأياً كانت مواصفات الإرهاب وبيئاته ومحدداته يزجّ الإسرائيليون بكل سهولة بالفلسطينيين في هذه الهوة حتى عندما يكون الطرف الفلسطيني مفاوضاً مقبولاً ولائقاً ويكرر ليلاً ونهاراً تمسكه بالقرارات والقوانين الدولية.

في الواقع تستكمل إسرائيل ما راهنت عليه الإدارة الأميركية عبر اتفاقية أوسلو، وهو عزل الموضوع الفلسطيني وفصله عن الدائرتين العربية والإسلامية. الاستكمال هو تحويل الفلسطينيين إلى جزر سكانية صغيرة بلا وطن.