(تتجلى مظاهر الإخاء الديني في فلسطين بتعانق الجوامع والكنائس في مظهر ساحر قل نظيره في العالم , فمن يقصد فلسطين يسمع امتزاج أصوات المؤذنين مع قرع أجراس الكنائس ,حيث يعيش المسيحيون مع المسلمين جنبا إلى جنب في جو اخوي فريد من نوعه)
بقلم/ د. حنا عيسى
الحضور المسيحي في معظم البلدان العربية يعود إلى نشأة الديانة المسيحية في بداية السنين الأولى الميلادية ,ويشهد التاريخ بكل مراحله على وجود جماعات مسيحية عربية في مختلف مناطق الشرق ,وبمجيء الإسلام بداية القرن السابع ميلاديا بدا تاريخ مشترك جمع بين المسيحيين و المسلمين في الشرق العربي وحضارة مشتركة ورثت جميع الحضارات السابقة في هذه البلاد, حيث كانت حضارة بابل والحضارة الفرعونية أولى حضارات التاريخ.
ولقد أدت خبرة وتجارب الماضي بالمسيحيين و المسلمين إلى الانصهار في بوتقة واحدة هي الحضارة العربية ,مع احتفاظ كل منهم بأصالته الدينية وخصوصيات عاداته وتقاليده. ويشكل هذا التراث الحضاري المشترك ضمانا لاستمرارية التفاعل الذي يواجه اليوم مستجدات لابد من استيعابها ,وإمكانيات لا بد من بلورتها ,وتحديات لابد من مواجهتها ,وهذا كله يفتح الأبواب واسعة أمام مستقبل هذه الخبرة بكل حيويتها وأصالتها .
أن استمرار التعايش الايجابي في الغالب الأعم من الدول العربية ,وتمتع المسيحيين بحريات العبادة والنشر والكتابة واستخدام القنوات الإذاعية و التلفزيونية في معظم الدول العربية بما فيها بلدنا فلسطين , وتضائل القيود أمام وصول المسيحيين إلى معظم وظائف الدولة ومراتبها ,وخصوصا في فلسطين و الأردن ولبنان وسوريا ,وحسن العلاقة بين المراجع الدينية المسيحية و الإسلامية في جميع الدول العربية ,وقيام هذه المراجع بتطويق أي حادث سلبي يطرأ على مسيرة العلاقات بين المسيحيين والمسلمين وتعمق القناعة لدى الشريك المسلم بان المسيحية العربية شريك أساسي في العيش و المصير ,وجسر حوار مع الغرب يمكن للإسلام العربي أن يستفيد منه إيجابا.
أما أهم نقطة سلبية التي يجب العمل على تجاوزها بتعاون وتضافر الطرفين تكمن باستمرار الجهل الواسع بدين الأخر في عقائده وممارساته ونمط حياة أبنائه ,و الجهل , يغذي تصورات مغلوطة ويصور الأخر على نحو قسوة ومخالف لصورته الحقيقية ,ولتجاوز هذه الظاهرة ,علينا أن نبلغ كمسيحيين المسلمين مرحلة المواطنة الكاملة بين المسلمين و المسيحيين , المواطنة التي تستلزم مساواة في لحقوق والواجبات , مساواة أمام القانون وفي الواقع ,في المواطنة تنتفي فكرة الأكثرية والأقلية , وتنتفي فكرة القوى و الضعف , فكرة الأصيل و الوافد ,في المواطنة , يعيش الجميع كرامتهم ويسهمون في نهضة بلادهم و الدفاع عنها , في المواطنة تعود كرامة الإنسان ككائن رفعه الله تعالى على جميع الكائنات وأودع فيه روحه ,وأقامه سيدا على الأرض .
أن ما يعانيه المسيحيون العرب يعني في الوقت نفسه المسلمين العرب وان هذه المعاناة أيا تكن أسبابها ,تشكل حافزا لعمل إسلامي مسيحي مشترك يحافظ على الحضور المسيحي العربي في النسيج الاجتماعي العام , ويحافظ على ما يميز به من تنوع وتعدد على أرضية مصالح الوطن ووحدته .
أن المتابع و المدقق في تطور العلاقات الإنسانية وتوجهات أتباع الديانتين المسيحية والاسلام يرصد تصاعد الاهتمام بالحوار الإسلامي المسيحي كضرورة لتخفيف التوترات في بقاع كثيرة من العالم , بالتوازي مع تنامي اتجاهات تركز على أهمية استحضار الرؤية الدينية للقضايا التنموية و استخدامها في سبيل التوعية وتطوير الخطاب الديني داخل كل دين عبر مؤسساته ومنابره وامتداداته وتوظفيها أيضا في تطور الأداء الاجتماعي و الاقتصادي ,وتشكيل الرأي العم المحلي و الدولي الفاعل في الخدمة و التنمية الإنسانية .
وعلى ضوء ما ذكر أعلاه ,فان الحوار المسيحي – الإسلامي ,أصبح على المستوى الحياتي و المصيري المشترك ,حتميا نظرا للأحداث والتغيرات في المنطقة .فالقضايا واحدة لأننا نحيا في وطن واحد , يحذونا أمل في مستقبل مشرق واحد , كما وان الحوار يؤصل المواطنة و الهوية العربية للمسيحيين و المسلمين على حد سواء في الشرق الأوسط وان المنطقة التي خرجت منها المسيحية إلى العالم كله وما زالت هي المكان الذي يقصده مسيحيو العالم اجمع لزيارة الأماكن المقدسة.
ومن هذه المنطقة أيضا خرج الإسلام إلى العالم وما زالت هي المكان الذي يقصده مسلمو العالم لأداء فريضة الحج .لذا اكبر مثال على التعايش المسيحي الإسلامي كانت القدس وما تزال كسابق عهدها قبلة للأنظار وملتقى الحضارات ومهبطا للأديان السماوية الثلاث( اليهودية , المسيحية والإسلام ),وتتجلى مظاهر الإخاء الديني في فلسطين بتعانق الجوامع والكنائس في مظهر ساحر قل نظيره في العالم , فمن يقصد فلسطين يسمع امتزاج أصوات المؤذنين مع قرع أجراس الكنائس ,حيث يعيش المسيحيون مع المسلمين جنبا إلى جنب في جو اخوي فريد من نوعه .