ليل عربي طويل يمتد من سوريا إلى كل بلاد العرب.
ليل من العسف والقهر والابتذال، يصل إلى ذروته مع انتصار منطق القاتل على استغاثات الضحايا.
الليل العربي صنعته الثورة المضادة حين نجحت في الاستهانة بالدم، ومحت صيحة الحرية والكرامة الانسانية واستبدلتها بصراع وحشي بين الاستبدادات المختلفة: استبداد العسكريتاريا والمافيا واستبداد التيارات الأصولية واستبداد النفط.
نجحت الثورة المضادة بابتذال المعاني، فبعد ان تم خنق أصوات المنادين بالحرية عبر آلات قمع رهيبة، لم يعد هناك من حاجة الى لغة للتخاطب، فالاستبداد يتكلم بالدم لأنه اللغة الوحيدة التي يتقنها، والأصوليون يتكلمون لغة فقدت دلالاتها من شدة تشابهها ولم يبق منها سوى القتل والرعب، وأما النفط فلا لغة له لأنه أخرس بالولادة.
ليل العرب هو ليل أبكم تحتله الحروب الدموية، لذا لم يعد هناك من جدوى لتنظيرات ايتام المستشرقين عن فشل الربيع العربي، ففشل هذا الربيع هو اعلان هزيمة قرن عربي كامل بدأ مع عصر النهضة، ولا يمكن وصفه إلا انه انتصار للبربرية.
انه ليل أليلُ، كما تقول لغة العرب، فحين تعجز اللغة عن وصف الشيء تقوم بتحويل الموصوف إلى صفة، وتجعل من أفعل التفضيل مجرد تكرار للموصوف.
كيف نعيش الليل؟
كأننا دخلنا في رواية "العماء" للبرتغالي ساراماغو، حين أصيب جميع سكان المدينة بالعماء، فكشفت العتمة ما حجبه النور في كناية مرعبة عن احتمالات الانحدار الانساني إلى هاوية الجشع والتسلط والاستبداد.
هذا هو ليلنا الذي علينا أن نتعامل معه ونتعلم قراءته كي نستطيع الخروج منه.
حتى في مكان الوضوح الوحيد في المشرق العربي، فان المسألة دخلت في غموض الليل. في فلسطين المكان واضح لا لبس فيه، هناك احتلال وهناك شعب مهدد بالاجتثاث. لكن هذا الوضوح تسرّب من بين أصابعنا وكاد أن يضيع. ومثلما ضاع الوضوح السوري ودُمر الحلم المصري وتفتت صرخة "الشعب يريد" في دهاليز الموت العربية، فان الوضوح الفلسطيني كان مهددا بالضياع.
والذي أنقذه لم يكن السلطة الفلسطينية بأشكالها المختلفة بل صلافة الفاشية العنصرية الإسرائيلية ووحشيتها المفرطة، التي اعتقدت أنها تستطيع التستر بليل العرب والفلسطينيين كي تطوي القدس عبر السيطرة على المسجد الأقصى.
الوضوح الفلسطيني كاد يضيع لأن فلسطين هي جزء من هذا الانحطاط العربي الشامل. فلو تُركت القضية بين أيدي السلطة ومنظماتها وحماس والدحلان، لضاع كل شيء. فالطبقة السياسية المسيطرة التي صعدت بعد اتفاق أوسلو، مؤهلة لوأد القضية في دهاليز صراعاتها وفسادها وافسادها. قلت المسيطرة ولم أقل الحاكمة لأن الحاكم الفعلي هو الاحتلال.
نتنياهو لم يخطئ، فالرجل انطلق من حساب دقيق، واعتبر لهفة بعض العرب على كسب رضاه، وتمرّغ البعض الآخر في حقول القتل، كفيلان بالسماح له بالقفز على القدس من بوابة الأقصى من دون اي ردة فعل.
وقد جاءت جريمة عمان المزدوجة، وتكريس "زيف"، رجل الأمن في السفارة الإسرائيلية في عمان بطلا قوميا في إسرائيل، لتؤكد المؤكد. فقاتل الفتى والطبيب عاد الى إسرائيل ليستقبله رئيس حكومتها بصفته بطلا، وليجد نفسه محاطا بالاعجاب لأنه قتل عربيين لمجرد الشك في ان احدهما قد يعتدي عليه.
ووزير التعاون الاقليمي الإسرائيلي تزاخي هنغبي لم يكن يهذي حين صرح وكتب مهددا الفلسطينيين بنكبة ثالثة، قائلا للفلسطينيين لا تجربونا. فالرجل يعرف جيدا كيف صنعت إسرائيل النكبتين عام 48 و67. وهنغبي يتكلم من موقع القرار والفعل، وهو عكس المؤرخ الإسرائيلي بني موريس، الذي يحاول ترميم ضمير تشظى، والذي لم يجد ما يرد به على كتاب عادل مناع "نكبة وبقاء" سوى عبر تكرار نفيه لوجود النكبة او لوجود مخطط طرد لدى القيادة الإسرائيلية (هآرتس بالترجمة الانكليزية 29 تموز/يوليو 2017).
والمستوطنون ووزيرهم نفتالي بينيت كانوا يستعدون للرقص فوق ما يطلقون عليه اسم "جبل الهيكل"، تماما مثلما فعل مستوطنو الخليل وهم يحتلون منزل عائلة أبو رجب في 25 تموز/ يوليو 2017، في حماية حراب جيش الاحتلال.
كل شيء كان مهيأ للانقضاض على القدس. من سيقف في مواجهتهم؟ أي نظام عربي سوف يتحرك، والمنطقة تعيش اعصار الثورة المضادة، وتتفكك بين ايدي القتلة؟
في هذه اللحظة انتفضت القدس، غسلت لغة المقاومة بارادة شعبية مذهلة، واستعادت نفسها بصفتها مدينة فلسطينية رغم كل الاستيطان الذي يخنقها.
جاءت المقدسيات والمقدسيون بكل فئاتهم وطوائفهم، ليس للدفاع عن الأقصى فقط، بل للدفاع عن بيوتهم ووجودهم وكرامتهم المهدورة ايضاً.
استعيدت أهازيج بدايات الثورة السورية وهتافاتها وهي تلتحم بالأدعية وتصعد إلى النشيد مع "موطني"، الذي أعلنه الناس نشيدا وطنيا من دون قرار رسمي.
تشكلت اللجان الشعبية وتم توزيع الطعام والشراب على المعتصمات والمعتصمين، وأخذت المواجهات شكلها الاحتجاجي، كأنها تستأنف الانتفاضة الأولى.
لم تسقط انتفاضة القدس في فخ العمل المسلح، فالصراع ليس حربا بين فلسطين وإسرائيل، مثلما يريد الإسرائيليون تصوير المسألة. لا الآن ولا عام 1948 ولا في انتفاضة الأقصى كان هناك حرب بين متكافئين، فعبر تاريخهم النضالي الطويل لم يكن الفلسطينيون سوى مقاومين لآلة بطش احتلالية، ولم تكن أساليب نضالهم المختلفة سوى محاولات لبناء التوازن بين عدالة قضيتهم وقوة عدوهم وصلافته.
كان الشعب الفلسطيني، وخصوصا في القدس يقاوم بلا قيادة ، بل أن مقاومته أعلنت نهاية زمن تلك القيادة التي ترهلت واستُتبعت.
من المبكر وغير العادل الكلام عن انتصار، فما جرى هو جولة مشرقة في صراع طويل، لكن أهميته أنه يستطيع أن يشكل أرضية تقدّم مقتربا جديدا لزمن الاشتباك الفلسطيني.
أهمية انتفاضة القدس ليست فقط في نجاحها في إزالة بوابات الحديد، وفي فرضها إيقاعها الذي فاجأ الآلة العسكرية الإسرائيلية، بل في قدرتها على غسل اللغة من أوساخ الانحطاط واعادة الاعتبار لمعاني الكلمات. وهي بهذا المعنى ليست فقط لحظة فلسطينية مشرقة، بل هي أيضا لحظة عربية ممكنة. فرغم سواد هذا الليل العربي، ورغم الأسى السوري والعراقي والمصري والليبي واليمني… فلن يسمح الناس لهذا الليل بأن يكون حاضر المنطقة ومستقبلها.