القدس والأقصى: تراجيديا أخلاقية

بقلم: محمد حسين أبو العلا

أخذت قضية فلسطين منعطفات خطرة بلغ الخط التصاعدي فيها ذروة الفجور السياسي الذي دفع بالدولة العبرية أخيراً إلى استصدار قانون جائر هو قانون القدس الموحدة، والذي يمنع تقسيم مدينة القدس ويضعها في شكل أبدي في قبضة الاحتلال. وليس للمجتمع الدولي في تلك اللحظات العصيبة إلا أن يتساءل: هل تملك الدولة العبرية أية صلاحيات تشريعية قانونية تخول لها ذلك؟ ومن منحها سلطة الدفاع عن الحق الجائر؟ وكيف تم استثناء تلك الدولة من مواد وفقرات القانون الدولي التي تحدد معنى الشرعية واللاشرعية؟ وهل تم استحداث بنود مواد تخول للمحتل بقاءه بفعل القوة أم بفعل الشرعية؟ إلى ما هناك من أسئلة مشابهة.

وإذا كانت السياسة الدولية في مجملها إنما تتأسس على مجموعة من القيم أولها العدل والنظام والسلام واستقلال الدولة والشعب، من ثم فإن مفهوم السيادة يقتصر على معنى الهيمنة الشرعية لا الفوضوية السياسية والإنفلات من الميثاق الأخلاقي الذي يؤكد وجوده والعمل به آدمية البشر في كل زمان ومكان، لكن أفعال الدولة العبرية ومنذ عقود طوال لا تتسق مع إتحافات الحضارة ومعطياتها المعاصرة وإنما تأتي دوماً مؤكدة أننا بلغنا منحدراً إنسانياً عتيداً يصعب تجاوزه ما ظلت وحشية الدولة العبرية تغذيها المطامع الجبارة المنبثقة من نوازع التسلطية السياسية والدينية وصنوف الباثولوجيا العنصرية، والتي خلالها استباحت الأقصى مراراً في محاولة لإحكام السيطرة عليه ووضع محددات وضوابط تكون بمثابة الذرائع الضامنة لبسط النفوذ الكامل عليه مستقبلاً، ثم يكون الشروع في هدمه وإقامة الهيكل المزعوم بديلاً عنه. وهو بالفعل يعد انتصاراً ساحقاً للغفلة الدولية التي تهادن اللاشرعية الباعثة على الفوضوية السياسية، وتلك هي إحدى أهم الأساطير التي يراد لها أن تسكن العقل المعاصر لتتحول الأكاذيب ذات لحظة إلى حقائق كاملة يقال فيها: لم يكن هناك شيء اسمه "الفلسطينيون"... إنهم لم يوجدوا مطلقاً، كما رددت من قبل غولدا مائير.

إن أهم الأفكار التي تثيرها التحركات الصهيونية الرعناء هي ذلك السقوط الأخلاقي والقيمي والمعنوي للمجتمع الدولي المشارك فعلاً وصمتاً في استمرار المذابح اليهودية، وإن الخوض في نقاش تفصيلات الحادث بالقدس والأقصى ربما لن يضيف جديداً إلى الملحمة الدموية للدولة العبرية، لكنه ربما دلنا على بعض الحقائق الدامغة التي كان يجب أن يكون لها مركز الصدارة، كما أنه قد يدفع ذلك المجتمع الدولي التائه المتخبط لاستفاقة عاجلة إلى بعض المبادئ الإنسانية العامة التي أولها أن الحياد والموضوعية هما لغة أخلاقية منصفة، بل ربما تكون محققة لديمومة المصالح عن لغة التحيز والمحاباة المحققة للمصالح الوقتية العابرة.

وإذا كان التاريخ القديم والمعاصر أكد أن دور الأخلاقيات في السياسة الدولية إنما يتضاءل كثيراً قياساً على السياسة المحلية، فإن اللحظة المعاصرة تحتم تقوية ودعم الإجماع الدولي للإلتفاف حول منظومة قيمية فاعلة مهما تتضارب المصالح وتتناقض الأهواء لأن الأخطاء السياسية والاستراتيجية الفادحة ربما تطيح بالكوكب الأرضي. كذلك تستوجب اللحظة تحجيم الاختلافات الثقافية والدينية التي تسحق العدالة الإنسانية وتعلن فشل حضارة غير مسبوقة طوت الكون بين جناحيها لكنها أخفقت في أن تحقق الأمان وتبعث الأمل وتجدد الروح.

إن قضية القدس والأقصى التي تمثل جوهر الصراع التاريخي – مهما طال بها الأمد بين العرب والدولة العبرية – ستظل رهناً باستعادة الذات العربية لكل مقوماتها، وهو شيء قد يبدو عسيراً في اللحظة الآنية، لكن حين تظل الحقوق المسلوبة ماثلة في الضمير الجمعي تؤرق أصحابها وتستفز عقولهم ومشاعرهم وتعدل بهم عن لغة الخطابة وآليات الحماس الأجوف ويلوذون بالقناعة الراسخة والإيمان الثابت بالحق التاريخي ويستصرخون مكامن القوة فيهم متحسبين للمعطيات آخذين بالأسباب والمسببات والمقدمات والنتائج، مدركين أن مسار السياسة يخاصم مسار المستحيلات.

محمد حسين أبو العلا 

* كاتب مصري