ما عشناه يوم الخميس الماضي في القدس والمسجد الأقصى ومحيطه، كان ملحمة إنسانية، دينية، وطنية وتاريخية . رأينا الإرادة الشعبية التي صنعت انتصار الأقصى في أبهى صورها، ورأينا المقاومة الشعبية تُمارَس، وتكافح، وتنتصر، بأسلوب نموذجي يحتذى به. فبعد أربعة عشر يوما من إنتفاضة القدس الشعبية كُسرَ نتنياهو وحكومته أمام إرادة المقدسيين وإضطر أن يسحب و يزيل بواباته الالكترونية وكاميراته، وممراته الحديدية، و أقواسه التجسسية.
وعندما أعلنت المرجعيات الدينية والوطنية عن دخول الأقصى في موعد صلاة العصر ، قام الاحتلال بمناورته الأخيرة بإغلاق باب حطة . فهب الآلآف رافضين الدخول حتى يفتح الباب. وقبل موعد الصلاة بدقيقتين اضطر الاحتلال تحت الضغط الشعبي لفتح الباب.
ومع ذلك ، وأثناء دخولنا الى الأقصى عبر ممر باب حطة بدأ الجيش بالقاء القنابل الصوتية بكثافة ، وأطلق جنوده الرصاص المعدني فجرح كثيرون ولكننا وصلنا، وأقيمت الصلاة في الأقصى لأول مرة منذ أربعة عشر يوما. وبعد صلاة العصر عاد جنود الاحتلال إلى محاولة تدنيس المسجد الأقصى ونزع علم فلسطين فاشتبك معهم المصلون ، وانتهى الأمر بأكثر من مئة جريح ومصاب . ومع ذلك بقينا في الأقصى، وأقيمت صلاة المغرب وصلاة العشاء بحضور عشرات الآلآف. واعتصم آلاف الشبان و الشابات ممن منعوا من الدخول ،مرة أخرى، و تحدوا قوات الاحتلال في باب الاسباط وباب حطة. رأيت في عيادة المسجد الأقصى شبانا مقدسيين بواسل مصابين بكسور وجروح ، وعالجنا شبابا من الضفة الغربية تسلقوا الأسوار وتدلوا بالحبال حتى يصلوا الى الأقصى ، وجائوا بجروح عميقة في كفات أيدهم نتيجة استعمال الحبال في التسلق والهبوط. شاهدنا شيوخا يبكون فرحا بالعودة للأقصى ، ونساء باسلات وقفن في وجه جنود الاحتلال ، وأطفال شاركو أهلهم رحلة الوصول الى الأقصى. وفي آخر الليل ، بعد صلاة العشاء ، التقينا بطفل لم يتجاوز عمره التسعة أعوام إعتقله الاسرائيليون من ساعات الصباح حتى المساء ، بتهمة رشق الحجارة . لم أره خائفا أو واجلا ، بل كان يبتسم وفي عينه بريق الفخر. ومن حقه ، ومن حق أهل القدس ، ومن حقنا أن نفتخر . فما قدم في هذه الأيام الأربعة عشرة غدا نموذجا يحتذى في المقاومة الشعبية. وما حققه المصلون والمتظاهرون من وحدة ميدانية، ووحدة في القرار والإرادة، كان نموذجا يجب أن يستفيد منه كل من يحرص على انهاء الانقسام و تحقيق الوحدة الوطنية. وما صنعه الفلسطينيون من تضامن فاق كل خيال .
لم تخل ساحات الصلاة والاعتصام لحظة من المتبرعين بزجاجات المياه ، وحاملي الطعام للمعتصمين، وموزعي الحلوى من كل صنف ، وكله من أهل المدينة الذين لم ينتظروا تبرعا أو تمويلا من أحد، بل اصابوا جنود الاحتلال بالذهول من حجم تكاتفهم و تضامنهم و كرمهم. كما لم ينتظروا قرارات أو ارشادات لما يجب أن يعملوه ، بل إنتزعوا زمام المبادرة بأيديهم وطبقوا المثل الشعبي " ما حك جلدك مثل ظفرك". وعندما لجأ المحتلون في صلاة الجمعة الى محاولة تجزأة المصلين بمنع الشباب المقدسيين، و عدد منا، من الدخول للأقصى اتسع المسجد ليشمل كل مدينة القدس و تحولت شوارع القدس و محيط الاقصى مرة اخرى الى ميادين كفاح تعج بآلاف المصلين الذين اصروا، بنظام و انضباط مذهل، على ابقاء زمام المبادرة بيدهم و أفشلوا استفزازات الاحتلال المتعطش للدم بعد هزيمته. و ما ان اقترب المغرب حتى اجبر على فتح بوابات الأقصى ليدخل الجميع مهللين مكبرين. عندما طلب مني القاء كلمة في المسجد الأقصى بعد صلاة المغرب يوم الخميس، قلت، بعد الشكر لله تعالى ، أولا للمقدسيين والمقدسيات الذين قبضوا على الجمر وصمدوا وانتصروا، ولم ينتظروا احدا ، بل إندفعوا للمواجهة بكل قوة. والشكر ثانيا لرجال الدين المسلمين الأفاضل الذين قدموا مرجعية وطنية ودينية فحققوا وحدة العمل والكفاح، وكانوا قدوة في تقدم الصفوف، ويشمل ذلك رجال الدين المسيحيين الذين وقفوا الى جانب اخوتهم المسلمين في السراء والضراء. والشكر لأهلنا وأبناء شعبنا في الداخل الذين هبوا لمساندة الأقصى والقدس ، ولكل من استطاع من أهل الضفة إجتياز الحواجز ، والجدران، ووصل لنصرة القدس والأقصى، و لكل أبناء الشعب الفلسطيني الذين انتفضوا في الضفة وغزة فواجهوا المحتلين مقدمين الإسناد لأهلهم في القدس. و للصحفيين والإعلاميين الذين استبسلوا في نقل ملحمة النضال الشعبي للعالم ، وأصيب العديد منهم بالرصاص والقنابل الصوتية والضرب . وللأطباء والمسعفين البواسل الذين خاطروا بحياتهم وهم يسعفون الجرحى والمصابين. وفي الخلاصة فان نموذج الأقصى والقدس كان خير تجسيد للمقاومة الشعبية التي طالما سعينا لها ، وأظهر قوة الشعب عندما تفعل. ولعل ذلك يقنع الجميع بضرورة تبني استراتجية ونهج جديد يبتعد عن تكرار ما فشل، ويركز على تغيير ميزان القوى بالمقاومة والكفاح الشعبي، وبالمقاطعة وفرض العقوبات، وبالوحدة ودرء الانقسامات ، وبتعزيز صمودالفلسطينيين على أرض وطنهم ، وإعادة بناء التكامل بين مكونات الشعب الفلسطيني. لكن انتصار القدس و الأقصى هوفصل مجيد، في معركة أكبر، ما زالت مستمرة للخلاص من الإحتلال بكامله ، وللتحرر من منظومة الأبارتهايد و التمييز العنصري ، و لتحقيق الحرية المنشودة لكل الفلسطينيين. هذه ملحمة القدس وهذه رسالتها.
بقلم/ د. مصطفى البرغوثي