بناء مؤسسات الدولة في فلسطين كان المشروع الأكبر والاهم الذي بادر به وطوره رئيس الوزراء السابق د. سلام فياض. بناء مؤسسات دوله، ارضها وشعبها ما زالت تقبع تحت مخالب الاحتلال واقتصادها وسيادتها رهائن اتفاقات جاحفة تعطي للمحتل كل إمكانيات السيطرة المباشرة والغير مباشره، هو بحد ذاته تحدي كبير جداً. تحدي يحتاج بالدرجة الاولى لشحذ الهمم الذاتية والاستقواء بمكونات الشعب وقدراته الموجودة بكل أماكن تواجده. واهم الأمور لنجاح مثل هذا المشروع هو جذب الشعب واقناع كل فئاته لدعم عملية البناء. هذا لا يمكن ان يتم الا اذا كانت الشفافية هي سيدة الموقف في كل الخطوات والقدرة المهنية هي القاعدة الأهم بتقلد المراكز وشغل المناصب.
الْيَوْمَ وبعد عقدين ونيف على بناء السلطة الفلسطينيه وتلقيها اكثر من 20 مليار دولار دعم من الخارج غير ما تم جبايته من ضرائب محليه اضافة الى إيرادات المقاصة -وهي الأموال التي يجبيها الاحتلال الإسرائيلي لصالح السلطة - لا يسعنا الا ان نقول بان ما تم صرفه على " بناء مؤسسات الدولة" مقارنة بما صرف لبناء الاقتصاد الوطني المنتج وفرص العمل المنتجه زهيد جداً.
أنا على يقين تام بان أية عملية بناء، إداريه أم اقتصاديه أم خدماتية، مهاما كانت صغيرة يمكن بعد التدقيق ان تجد ثغرات بصرف الأموال وإدارة المشروع. المهم هو كيف تتعامل السلطة مع هذه الثغرات؟
منذ السنوات الاولى للسلطة الفلسطينيه وحتى يومنا هذا ما زال شبح المحسوبية والرشوة وهدر المال العام وسوء الادارة يدور فوق كل المشاريع التي تمت في فلسطين المحتلة وأصبحت هذه المفردات السمة الأكثر انتشاراً بين طبقات الشعب لتصوير حالة السلطة. ما كان ينقص السلطة كمرافق دائم في عملية بناء مؤسسات الدولة هو المحاسبه الدورية وطرح السؤال: من أين لك هذا؟ على كل من له صلة بمشروع ما!
التقارير حول الفساد بالسلطة الفلسطينيه عديده ومتنوعة والاموال التي اختفت كبيرة جداً والصفقات التي تمت من وراء ظهر المؤسسات الرسمية لا تحصى ولا تعدد وكذلك عدد رجال السلطة وموظفيها المتورطون بهذه الاعمال المشينة. لجنة التحقيق بالفساد لم تقدم حتى الْيَوْمَ أحداً من الحيتان الكبار للمحاكم. وبحسب مؤسسة " ترانس بيرانسي اتترناشنال" المقيمة في برلين والتي تقوم بتحليل مستويات الفساد حسب درجة استغلال المال العام في سبيل الإثراء غير المشروع والوظائف العامة للمنفعة الشخصية، أتت السلطة الفلسطينية في المرتبه 107 في قائمة الدول الفاسدة وفِي المرتبة الثانية عربياً بعد العراق التي حصلت على المرتبه 137 عالمياً.
معظم تقارير الفساد والتقارير حول هدر المال العام في فلسطين تتعلق بمشاريع استثماريه وما شابهها.للاسف لم يتم الاهتمام بمجال الخدمات وكل ما يحيط بها بِمَا هو كافي وأفضل مثال على ذلك هو القطاع الصحي الذي اصبح مستنقع كبير وعميق تهدر به عشرات الملايين من الدولارات سنويا وتتغذي القطط الصغار، من موظفين في مكاتب الصحة ووزارة الصحة وبعض الأطباء الذين فقدوا إنسانيتهم ونقضوا قسم الشرف الذي اخذوه على عاتقهم عندما اصبحو أطباء ووكلائهم في بعض الدول الاوروبيه وتجار المرضى كما أسميهم، كل هؤلاء يستغلون الثغرات المهنية والقانونية بالقطاع الصحي الفلسطيني لمنفعتهم الشخصية.
ارى ان السبب الحقيقي وراء عدم الاهتمام بالاختلاس وهدر المال العام في المجال الصحي يعود الى سببين أساسيين؛ الاول نابع عن التقدير الواسع والامتنان من كل فئات الشعب للسلطه لتنفيذها لمشروع الضمان الصحي لكل المواطنين. وهذا دون أدنى شك من اهم وأفضل ما قامت به السلطة الفلسطينيه، هذا التقدير يعمي البعض عن النظر بدقه لما يحصل يوميا في القطاع الصحي والسبب الثاني هو ان الاختلاس يتم بحالات كثيره لكن المبلغ بكل حاله قليل مقارنة بالاموال التي يتم اختلاسها بالمشاريع الاستثمارية .
في فلسطين التأمين الصحي هو من شأن وزارة الصحه وليس من مجالات عمل القطاع الخاص. اَي ان وزارة الصحه هي التي تمول وتصرف على كل انواع العلاج والادوية التي يحتاجها المواطن بغض النظر إن قُدِم العلاج للمريض في الوطن أو في دولة اخرى.
لإجراء علاج ما أو عملية جراحية يتوجه المريض لدوائر الصحه أو الى المستشفيات الحكومية وهناك يتم تحويله الى جهه معينه ومحدده ( الى أخصائي أو الى مستشفى خاص، وفي حالة المستشفى يتم تحديد اسم الطبيب، الذي سيقوم بالعلاج، من قبل موظف الصحه أو الأخصائي في المشفى الحكومي) وهنا يبدأ حبل الرشوة والاختلاس والمحسوبيه والعبث بالمال العام.
بعض الموظفون في دوائر الصحه يطلبون بكل وقاحه بعض المال من المرضى ليسرعوا بعمليه التحويل أو للموافقة على تحويل المريض للعلاج في اسرائيل وكذلك الحال مع بعض ما يسموا " بمختصين" من الأطباء بدون ضمير ودون وجدان. وبما ان المشفى الخاص ، ان كان في فلسطين أو في اسرائيل أو اَي دوله اخرى، يجني ارباحاً من العمليات الجراحية فللحصول على عدد اكبر من الحالات يتم رشوة الموظفين في دوائر الصحه والأخصائيين في المستشفيات الحكومية. وفي حالات عدة، خصوصاً تلك الحالات التي يتم علاجها في الدول الاوروبيه عبر سماسرة يتم إصدار فواتير مضخمه جدا ويتم اقتطاع واختلاس أموال عديدة من مصاريف المريض وتكاليف العمليه الجراحية . والأمثلة، خصوصاً في ألمانيا وبريطانيا، عديدة جداً وأسماء السماسرة ومن خلفهم في الدوائر الرسمية معروفه للجميع.
في مجال الصحه نستطيع ان نراقب ليس فقط كيف اصبح الاختلاس جزء من المؤسسة الرسمية بل نرى بوضوح كيف يتعامل المسؤول، بغض النظر عن مركزه، مع الشعب والمؤسسة وكيف ينظر لهم.
شعب فلسطين معروف انه من الشعوب التي تتفوق في التحصيل العلمي. والكل يتباها ويفتخر بحق بإنجازات أبناء شعبنا الفلسطيني في جميع مجالات العلوم وخصوصاً في الحقل الطبي. الألف من الأطباء والمختصين بجميع المجالات ما زالت موجودة بالخارج ولَم يتم أية محاولة جديه لاستقطابها للعودة الى فلسطين وبناء قطاع طبي منافس عالمياً مع اننا في مجالات عدة نملك اخصائيين بشهرة عالميه وكان بالإمكان ان يكون هذا المجال رمز لبناء أعمدة دولة متينة منافسه الا ان المحسوبية العائلية والحزبيه وقفت سد مانع امام مثل هكذا إنجاز. وبدل ان يكون الرجل/المرأة المناسب/المناسبه في المكان المناسب تم اعتماد الولاء الحزبي والمحسوبيه والرشوة والفساد في تسلم المناصب. اضافة الى هذا الخلل المشين زاد تصرف المسؤولين في السلطة من تأزم الوضع. قليلا ما ترى مسؤول فلسطيني أو احد أفراد عائلته يتعالج في مستشفيات الوطن. كلهم يحصلون على تحويلات لإسرائيل أو لاوروبا مع العلم ان معظم العلاجات والعمليات الجراحية ممكنه بالبلد وعندنا أخصائيون بشهره عالميه يتواجدون في مستشفيات فلسطين المحتلة. ( هنا لا بد للتنويه على ان هذا التصرف لم يقتصر فقط على سلطة رام الله بل أيضاً سلطة غزه سارت بنفس الطريق). هذا التصرف الاوطني يدل على ان ثقة هؤلاء المسؤولين معدومه بابناء شعبهم ...فكيف يريدون هؤلاء بناء وطن ؟
وحتى أوضح لقارىء بامور عينيه ما اقصده اتي بمثال جراحه المخ والأعصاب في مستشفى المقاصد بالقدس المحتلة:
قبل حوالي خمسة سنوات قرر البروفسور د. سامي حسين، أخصائي جراحة المخ والأعصاب وأحٓد أشهر المختصين عالمياً بهذا المجال، العودة الى الوطن لتقديم خبرته التي اكتسبها كمحاضر ورئيس قسم جراحة المخ والأعصاب في كلية الطب بهانوفر/ ألمانيا الى أبناء شعبه في فلسطين المحتلة. كان هدفه منذ البداية بناء قسم جراحه مميز وتعليم أطباء من أبناء شعبنا مهنة جراحة المخ والأعصاب لتضاهي كل أقسام هذا النوع من الجراحة في الشرق الأوسط. بعد عمل مضني وجهد مميز استطاع ببناء قسم مميز يعمل به البروفسور حسين مع ثلاث اخصائيين وسته مساعدين يقومون بإجراء حوالي 1000 عمليه جراحية في مجال المخ والأعصاب سنوياً. ويدخل القسم الان حوالي 25% من دخل المستشفى كاملاً. هذا الرقم من العمليات يضاهي ما تقوم به مستشفيات اسرائيل المجهزة والتي يعمل به طواقم اكبر بكثير مما هو موجود في مستشفى المقاصد. ويقول بروفسور حسين ان حوالي 30% من المرضى الذين يتلقون العلاج في الاْردن وفِي اسرائيل يأتون له لان عملياتهم الجراحية لم تكن ناجحة. وان 10% من مرضى القسم من الداخل الفلسطيني الذين يفضلون اجراء العميله الجراحية عند طاقم بروفسور حسين وليس في مستشفيات اسرائيل. وبعض شركات التأمين الاسرائيليه مثل شركة مكابي وشركة ميوحدت تغطي العلاج في مستشفى المقاصد للمرضى الاسرائليين، في الوقت الذي نرى كبار المسؤولين في كل من سلطة رام الله وسلطة غزة تتهافت للعلاج في اسرائيل وتهدر المال العام بدل ان تصرفه على مؤسسات الوطنيه وتدعم الاقتصاد الوطني. وحسب البروفسور حسين فان تكلفة عملية جراحية في تخصصه بمستشفى المقاصد لا تتعدى ال 50% من التكلفة في اسرائيل وأقل من 30% من التكلفة ي أوروبا.
في النهايه بقي ان نقول بان شعب فلسطين يمتلك قدرات جباره وامكانيات عاليه لبناء وطن ومؤسسات وطن مشرفه... ما ينقصه هو فقط قيادة سياسية حكيمة وطنيه بكل المعنى تُقٓدر هذه الإمكانيات وتدعمها لأخذ دورها في بناء المؤسسات الوطنيه بإعطاءها الثقه والدعم الذي تستحقه.
الكاتب والمحلل والباحث السياسي رائف حسين- المانيا