الوحدة النصية والإبداعية في مجموعة بائعة الكبريت

بقلم: مادونا عسكر

في عمل مشترك بين الكاتبين العراقيين علي غازي وإبراهيم عدنان، تتشكل المجموعة القصصية بائعة الكبريت، في انسكاب روحي واحد حتى يكاد القارئ لا يميز وهو يتنقل بين القصص، من صاغ هذه القصة أو تلك إلا بالعودة إلى اسم القاص. ذاك لا يعني أن الكاتبين ذاب بعضهما في بعض، وتاهت ملامح أحدهما في الآخر. لكن العمل يشبه لوحة فسيفسائية أضاف كل منهما لمسته حتى اكتملت اللوحة وظهرت واحدة.
تتضمن المجموعة ستة فصول، تنقل الواقع العراقي بدقة محاكية تفاصيل المجتمع الذي شرذمته الحرب والإرهاب فكريا ونفسيا وروحيا. ولا ينقل الكاتبان الواقع وحسب، وإنما يتغلغلان في خلاياه ويعالجان سلوكيات المجتمع التي أنتجتها الحرب والتشرذمات العلائقية، والحالات الاجتماعية التي تراوحت بين الوحدة، والخيبة، والظلم، والفقد، واليأس، والحلم... لكن روحا حيا يعمل في النصوص، فلا يجعل منها حائطا مسدودا لا يمكن اختراقه نتيجة غموض أو حزن.
يصوغ الكاتبان قصصهما من وجع، ولكن بروح حي يلمس القارئ، يعرض مشكلته، يدله على وجعه، ويعالج فكره من خلال تفاصيل الحياة اليومية في دوائر الفرد والعائلة والمجتمع. ولئن كان عنوان المجموعة القصصية بائعة الكبريت فلا بد من الإشارة إلى تناص بين قصة بائعة الكبريت للشاعر والأديب الدنماركي هانس كريستيان أندرسن التي تروي معاناة فتاة فقيرة تجوب الشوارع ليلة رأس السنة لتبيع أعواد الثقاب. كانت تعاني من البرد والجوع، وماتت وهي غارقة في هذيانها. وفي القصة التي أوردها إبراهيم عدنان مشهد مماثل، لا يختلف كثيرا عن قصة أندرسن، إلا في النهاية. فالقاص إبراهيم عدنان بدل حركة الفتاة ليجعلها مفتوحة على حرمان أكبر
حافية تجوب شوارع يزفتها الجليد، بثوب ممزق ترقعه سترة تغطي سنتها الخامسة أنفها الوردي، مجرى ينحدر ماؤه فوق شفتين ناشفتين ضفائرها تبعثرها الرياح، حلمها الكبير نار مدفأة لا يطفئها المطر. تنفخ بقايا حرارة قلبها في أنامل مصلوبة بسياط الشتاء.
اليوم رأيتها عارية، علبها متفحمة وسترتها مكورة فوق شيء ما، تحاول جاهدة إشعال النار لدميتها أخبرتني أنها آخر من تبقى لها.. بائعة الكبريت إبراهيم عدنان.
في قصة أندرسن تشعل الفتاة أعواد الثقاب لتشعر بالدفء، وما تلبث أن تموت وهي تحلم بالمدفأة، بالطعام، بجدتها، ما يعني أن الموت غلبها، ولا يشهد القارئ حركة انفعالية حقيقية للفتاة. وأما في قصة إبراهيم عدنان فالفتاة مصدر قوة بشكل أو بآخر على الرغم من عوزها. اليوم رأيتها عارية، علبها متفحمة وسترتها مكورة فوق شيء ما، تحاول جاهدة إشعال النار لدميتها أخبرتني أنها آخر من تبقى لها... الفتاة المعوزة الفقيرة تشعل أعواد الثقاب لا لتستدفئ وإنما لتدفأ دميتها التي يشير إليها إبراهيم عدنان بـ من بدل ما، فيحرر الدمية من جمادها، ويمنحها الحياة. ويمكن اعتبار هذه القصة القصيرة جدا مركزية تمتد لتحتوي كل النصوص، أو لتتوغل فيها كل المعاني التي أرادها الكاتبان. الفقر والعوز حاضران في جميع النفوس إن على المستوى المادي أو المعنوي. لكن الحلم قلق وملتبس في المجموعة القصصية على عكس اتساعه في قصة أندرسن
في الحلم رأيتهم يشيرون نحوي
هذا الذي قال أنه ملك بني إسرائيل
صلبوني ثالث ثلاثة... نظرت عن يساري وجدت أبي، يلعق دمه ويصرخ في وجهي
اللعنة عليك وعلى دينك الجديد.
عن يميني... نزعت أمي يدها من المسمار ورفعت عن رأسي أكليل الشوك، فيما هتفت عجوز بين الجموع الغفيرة
إنه الـنـبـي الـمـنـتـظـر كابوس علي غازي
الحلم الكابوس، الذي يرنو إليه الكاتب مشيرا إلى النبوة كعنصر خلاص وتحرر من الألم، والظلم، والقهر. وهو كابوس لاستحالة تحقيق الحلم، ولفداحة الألم الذي بلغ منتهاه. صلبوني ثالث ثلاثة... نظرت عن يساري وجدت أبي، يلعق دمه ويصرخ في وجهي.
تناص آخر مع مشهد الصلب في الإنجيل المقدس، مع مفارقة أحدثها الكاتب تجري فيها الأحداث على حساب أحداث أخرى هي المقصودة والرئيسية. فحدث الصلب الذي يعبر عن العقوبة نتيجة فعل خارج عن القانون أو الشريعة، يسيطر عليه حدث النبوة وذاك ما يقصده الكاتب. الكابوس الحقيقي هو الوعي الذي دلت عليها النبوة، وعوقبت من أجلها الشخصية الحالمة.
سيجد القارئ تناصا آخرا مع المزمور 22 في الكتاب المقدس
إلهي، إلهي، لماذا تركتني، بعيدا عن خلاصي، عن كلام زفيري
ثقبوا يدي ورجلي.
أحصي كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون في.
يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون. مزمور 22 الآية 1،16،17،18
سملوا عيني، وسمروني على الصليب ثاني اثنين. لا شيء يتحدث عني غير أصابعي الخمسة، كلها تشير إلى مدن تصرخ بوحشية.
إيلي لما شبقتني. مصير علي غازي
إيلي لما شبقتني لفظ مركب من العبرية والآرامية يعني إلهي إلهي لماذا تركتني. وفي هذا اللفظ منتهى السلبية، أو ما يرادفه في اللاهوت معنى الإلحاد السلبي. أي أن الإنسان يشعر أن الله تخلى عنه. فالشخصية التي تدور حولها القصة التي يمكن أن تكون الوطن، أو الإنسان تظهر عنف الواقع إلى حد اندثار الإيمان، أو اعتباره غضبا أعظم.
في الفصل الثالث أمنا الحرب، يشير العنوان إلى تأصل الحرب في النفوس وكيفية استحواذها على العقول حتى نكاد نتبين ثقافة الحرب. وفي هذا الفصل يعالج الكاتبان واقعية الحرب التي ما برحت مرتبطة بالإنسان كأنه لا يمكنه الاستغناء عنها. فلظ الأم يدل على رباط وثيق وحميم، بل لعل الكاتبين أرادا أن يبينا مدى تورط الشعوب بالحروب من ناحية استمراريتها وتنفيذ مآربها.
عبأ بندقيته بتفان، صوب تجاه خطوط النار ثم بدأ بإطلاق الرصاص. وأخذ يصرخ مع كل إطلاقة
... حمقى... يا أبناء الزواحف...
لم يكن يرغب في التوقف أبدا لولا أن أحدهم ربت على كتفه قائلا
العدو من الاتجاه الآخر ياسيد بوصلة علي غازي.
أضاع الإنسان بوصلته، وتاه عن الاتجاه الصحيح، ولم يعد يفرق بين أخ وعدو. وذاك يعود إلى تشتت العقل، وانغلاق الروح على ذاتها. فاجتاحها الخوف والرعب والاستسلام. بل إن الحرب جعلت الإخوة أعداء، يقاتلون من أجل قضية مبهمة
1 قابيل
استل خنجره العتيق، غرزه في ظهره، ثم حمل الجثة وألقاها في البئر المهجور. وكلما طلب الماء، اهتز عرق في داخله ...وتذكر قابيل.
2 قابيل آخر
أترقب بطن أمي، وأنتظر قدومه لأغرز في قلبه هذا الدبوس. وبدل أن يدخل أخي غرفته الجديدة، سكن المقبرة في جوف أمه. وبقيت أنا، وحدي، أحتفل كل عام، بذكرى ذلك الانتصار لعشرين مرة متتالية.
3 قابيلان
يتقاسمان نفس الشارع، كل على رصيف، في النهار يقرءان ذات الجريدة وفي الليل، يفترشانها. رغم الظلام، والمخاوف، فإن قلبيهما يتحدثان بلغة و احدة
ما أفظع أن نكون من نفس الأم. أبناء آدم علي غازي
تناص آخر مع قصة قايين وهابيل، وإن تكرر هذا الأسلوب فليعبر الكاتبان عن أنه لا جديد تحت الشمس، ولم يتغير الكثير من بدء التكوين إلى يومنا. حقيقة الحرب خدعة، الحقد بين أخوين، وتستمر مع كل ولادة لم تتثقف على الحب.
عاد أطفال الحي ببنادق بلاستيكية يتقاسمون أزقته تحت مسميات قبلية وطائفية يجمعهم
هتاف واحد نغزوهم ولا يغزوننا.. عيد جديد إبراهيم عدنان
وهنا أيضا تتناص القصة مع ذلك القول المأثور للنبي محمد عقب غزوة الخندق، فبعد هزيمة الأحزاب، قال هذه الجملة اليوم نغزوهم ولا يغزوننا، وتبرز المفارقة في هذا التوظيف، لاختلاف الواقعين، فالأطفال الهاتفين بهذه الجملة ضمن سياق الصراع الطائفي في العراق، هو بلا شك مختلف عن السياق الأول لهذه العبارة، مع ملاحظة السخرية في قصة إبراهيم عدنان وذلك عندما استخدم لفظي الأطفال والبنادق البلاستيكية، سخرية مرة فيها ظلال من العبث الذي لا جدوى منه.
استخدم الكاتبان في هذه المجموعة نمط اللوحة الشعرية، ولعل هذا النمط مغامرة ما لم يتحل الكاتب بإحساس عال ودقيق، يرتقي بروح القارئ دون أن يبعده عن مضمون القصة، أو يؤثر في فعاليتها في ما تريد إيصاله.
تبدد الليل فوق جسديهما..
تغفو الأرض على حرارة أنفاسهم
حروف متقطعة
أنا أحبك
لم تبلغ معشار حبي.
تبالغين حبيبتي بعد النجوم..
لا شك أما ترى كيف أحتضنهم في عتمتك
قد أكون آخر من يصله الضوء..
كيف ذلك وأنت بين ذراعي..
لم أكن مولدك الأول. أليس كذلك..
أنت توأم حياتي..
أغلق الهاتف
وعيناه تحتضن سقف الغرفة
محدثا نفسه
هل توأمي يستمتع بهذا الحديث.. مصارحة إبراهيم عدنان
أنموذج يتكون في لغة عاطفية بسيطة، تحمل واقعية الكلمة وتتحلى بالرومانسية. إلا أن هذه اللغة لم تقض على القصة. فسؤال النهاية المفتوح على مضمون الحديث وتأثيره يبلغ تأثير القصة وفعاليتها.
بالمقابل في الفصل السادس، ينفرد علي غازي في عشق ودموع ليخلق من كونشرتو الفصول الأربعة لفيفالدي محاكاة لفصول الحياة. قام فيفالدي في هذا العمل الموسيقي بمحاكاة عوامل الطبيعة المختلفة مثل نسمات الهواء والرياح الشديدة والعواصف. وأما علي غازي، فحاكى فيفالدي والقارئ معا بنفس شعري امتزج باللغة السردية، ليخرج العمل لوحة حياتية تترجم فصول الحياة من خلال فصول السنة.
كونتشيرتو فصل الربيع
الحركة الثانية Largo
حتى الحجر....
تفجرت دموعه
وتفتت بين يديه ألما،
عندما رماني القدر.
في مقبرة الأطفال، يتراكم حزنه ويسرق ما تبقى له من ثبات. مئة قبر تحتضنهم تربتها الجرداء، كلهم من أم واحدة. ذلك الذي يتوسط اثنان من إخوته، والآخر في الطرف الأيمن، والأبعد... كلهم ينتمون إلى ليلى ما غيرها.
لذلك نحيبه لا يتوقف، والشموع، ستبقى بين يديه قائمة في صلواتها، لا يطفئها غير العاصفة والمطر. فصول فيفالدي الأربعة علي غازي
امتزجت في هذه القصة اللغة الشعرية بالسرد فأظهرت للقارئ عمق الإنسان الملتهب بالعاطفة، والألم، والحزن. حملت اللغة القصصية الشعرية رؤية الإحباط التي يواجهها الإنسان في عالم اليوم، الذي تواجهه فيه أخطار عديدة ومؤلمة.
وأخيرا، وليس آخرا،
فإن كتابة عمل أدبي مشترك بهذا التناغم، وبهذه الإحالات النصية التي تربط النصوص بنصوص أخرى ومن حقول متعددة دينية وأدبية وموسيقية، يجعل من هذه المجموعة عملا أدبيا مكتنزا مفتوحا على شهية التأويل، ويكرس فنا إبداعيا، مستفيدا من كل تلك التقنيات السردية التي تحفل بها منظومة السرد العربي المعاصر.

مادونا عسكر لبنان