لأن الصراع في وعلى فلسطين على درجة من التعقيد بحيث يتداخل فيه الوطني مع القومي مع الديني مع الدولي ،وفي ظل حكومات يمينية إسرائيلية متطرفة لا تؤمن بفكرة السلام العادل ،فإن من الصعب حله الآن من خلال معادلة صفرية يحقق فيها طرف انتصارا ساحقا على الطرف الثاني ،أو حتى التوصل لتسوية تلبي الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني ،لذا فإن كل الأطراف باتت تشتغل على إدارة الصراع مع محاولة تحقيق منجزات جزئية يمكن المراكمة عليها إلى حين حدوث تغييرات جذرية في موازين القوى العالمية والدولية وفي الثقافة السائدة في المنطقة .
إسرائيل أدركت مبكرا هذه الحقيقة لذا عملت على تفكيك الصراع وتغيير طبيعته وأطرافه ونطاقه من خلال الاشتغال على عدة مستويات :
1- فكل الارتباط بين فلسطين وبعدها القومي العربي
فبعد أن كان الصراع صراعا عربيا إسرائيليا أصبح صراعا فلسطينيا إسرائيليا من خلال سحب عديد من الدول العربية لمربع التسوية وتوقيع اتفاقات سلام معها كمصر والأردن ، أو من خلال التطبيع الهادئ مع دول أخرى .
2- فك الارتباط بين فلسطين وبعدها الإسلامي
أما البعد الديني للقصية الفلسطينية فقد تكفل المسلمون أنفسهم بالأمر من خلال صراعاتهم وحروبهم مع بعضهم البعض وإدارة الظهر لفلسطين وأهلها ، ومن خلال الفصل ما بين القدس كمدينة فلسطينية محتلة وعاصمة للدولة الفلسطينية من جهة والأماكن المقدسة في القدس ،بحيث أصبح ارتباط المسلمين بهذه الأماكن المقدسة وخصوصا المسجد الأقصى وليس بفلسطين وأهلها ، وما عزز ذلك وضع الأماكن المقدسة في القدس تحت وصاية وإشراف المملكة الاردنية الهاشمية .
3- فك الارتباط بين فلسطين وبعدها الدولي والإنساني
تكفلت واشنطن بتطويع الأمم المتحدة بحيث تبقى قراراتها في الحدود التي لا تعرض وجود وأمن إسرائيل للخطر ،كما عملت إسرائيل وما زالت على فك الارتباط بين القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني وقضايا التحرر العالمي وتصفية الاستعمار ، من خلال اتهام الفلسطينيين بالإرهاب وتشويه عدالة قضيتهم من خلال الخلط بين مقاومتهم المشروعة للاحتلال والإرهاب الذي يسود المنطقة.
4- الفصل ما بين الشعب الفلسطيني وعمقه التاريخي
إسرائيل لا تحارب الفلسطينيين عسكريا فقط بل وتنازعهم على الرواية التاريخية ،لذا تسعى للتشكيك بالتاريخ الفلسطيني الذي يمتد لأكثر من أربعة آلاف سنة والزعم بأن الفلسطينيين دخلاء على فلسطين وأنهم لمم من البلاد العربية المجاورة ،حتى الرواية التي تزعم بأن الفلسطينيين وفدوا لفلسطين من بحر إيجا قبل الميلاد هي رواية كاذبة وقد روجها مستشرقون يهود في محاولة لإحلال الرواية الصهيونية التي تزعم أن العبرانيين أو اليهود أول من سكن فلسطين .
5- تفكيك العلاقة بين السلطة الوطنية والمشروع الوطني التحرري
بالنسبة للسلطة الوطنية والتي كان الرئيس الراحل أبو عمار ومعه الوطنيون الفلسطينيون يرومون من وراء تأسيسها أن تكون قاعدة ومنطلق لقيام الدولة الفلسطينية الموعودة ،فقد عمل الإسرائيليون على تفريغ السلطة الوطنية من مضمونها ودورها الوطني وتحويلها لمجرد وكيل محلي لإدارة الأمور الحياتية للفلسطينيين داخل مناطق السلطة بل في بعض مناطق السلطة في المنطقة (ج) دون أي مظهر من مظاهر السيادة للفلسطينيين ،بل توجد مؤشرات على الأرض بأن إسرائيل تسعى لعودة الإدارة المدنية الإسرائيلية ، الأمر الذي دفع الرئيس أبو مازن أكثر من مرة للتفكير بصوت عال بحل السلطة أو تسليم المفاتيح كما قال . ولم يقتصر الأمر على ذلك بل قامت إسرائيل بالانسحاب من قطاع غزة عام 2005 تمهيدا لتقسيم السلطة إلى سلطتين فلسطينيتين متعاديتين ،وسنُشير لذلك بعد قليل .
6- فصل مدينة القدس عن سياقها الوطني وعن السلطة الفلسطينية
محاولات إسرائيل لإخراج القدس من سياقها الوطني الفلسطيني ومن تحت إيالة ومسؤولية السلطة الوطنية الفلسطينية ،ونجاحها النسبي في ذلك بعود إلى بداية احتلالها عام 1967 حيث تصرفت معها ،أرضا وسكانا ،بطريقة مغايرة مع تصرفاتها مع بقية مناطق الضفة الغربية . فمباشرة بعد حرب حزيران 1967 اتخذت الحكومة الإسرائيلية قرارها القاضي بسريان القانون الإسرائيلي على القدس العربية المحتلة ، وفي 31 يوليو 1980 أقر البرلمان الإسرائيلي قانون "القدس عاصمة إسرائيل" ،وحالت إسرائيل ما بين السلطة وفرض نفوذها على القدس وانفردت بالقدس الشرقية استيطانا وتهويدا ، كما منحت هويات خاصة لأهالي القدس ،وعملت على تغيير التركيبة السكانية في القدس لصالح اليهود ،مع تضييق سبل العيش على الفلسطينيين من عمل وسكن وسفر الخ .
ما ساعد إسرائيل في تنفيذ مخططاتها في القدس إصدار الكونجرس الامريكي عام 1995 قانونا يعترف بالقدس كعاصمة لدولة إسرائيلي ودعوة الرئيس الأمريكي أخيرا إلى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس ، مع عجز السلطة الفلسطينية والمنظمات الدولية في ردع إسرائيل والحد من ممارساتها الاستيطانية في القدس ، بالرغم من صدور عديد القرارات التي تعارض الرواية الصهيونية حول القدس وآخرها قرار منظمة اليونسكو في مايو 2017 .
7- فصل قطاع غزة عن الضفة والعمل على إخراجه من سياقه الوطني
لقد سبق وأن كتبنا بالتفصيل عن سيرورة الانقسام ووضحنا أنه نتيجة معادلة مركبة :إسرائيلية ،وفلسطينية داخلية ،وإقليمية ودولية ، وإن كانت إسرائيل الفاعل الرئيس لفك ارتباط القدس بالسلطة والكيان الفلسطيني ففي حالة قطاع غزة فإن أطرافا فلسطينية وعربية وإقليمه ساعدتها في فصل القطاع عن السلطة وعن المشروع الوطني .
يبدو أن محاولات إخراج قطاع غزة من سياقه الوطني حققت تقدما ،حيث إن ميكانزمات الانتقال من الانقسام إلى الانفصال باتت أكثر فاعلية من ميكانزمات إنهاء الانقسام وإنجاز الوحدة الوطنية ،وهناك مؤشرات عديدة على ذلك ،منها : توقف كل الحوارات الرسمية للمصالحة منذ أكثر من عام ،مما يعتبر تسليما بالأمر الواقع وقناعة طرفي الحوار بعدم الجدوى ، وهي قناعة امتدت للأسف للرأي العام الفلسطيني ،تراجع الاهتمام العربي بموضوع المصالحة ،عدم قدرة أي من سلطتي الضفة وغزة على مد سيطرتها أو نفوذها إلى منطقة الطرف الثاني سبب ضعف كل منها ولأن أية منها لم تشكل نموذجا صالحا للحكم يُشجع الطرف الثاني على الاحتذاء به والانضواء فيه ، وأخيرا تشكيل حركة حماس لجنة لإدارة قطاع غزة (حكومة) .
لا يعني كل ما سبق أن الأمر استقر لإسرائيل ، فما زال في الإمكان تدارك الأمر وخصوصا أن العالم أصبح أكثر قناعة بحق الفلسطينيين بدولة مستقلة وأن إسرائيل تشكل عقبة أمام السلام . بالرغم مما يبدو على إسرائيل من مظاهر القوة فإنها مأزومة وضعيفة بسبب استمرار الفلسطينيين شعبا وقيادة بالتمسك بحقوقهم المشروعه ولأن هناك 6 مليون فلسطيني متجذرين في وطنهم في الضفة والقطاع وداخل الخط الأخضر ،و6 مليون آخرين في الشتات ما زالوا متمسكين بحق العودة .
بقلم/ د. إبراهيم أبراش