السلطة والنخبة الحاكمة في الدول الديمقراطية جزء من منظومة اجتماعية وسياسية وأخلاقية أشمل ،وهما أداة في خدمة هذه المنظومة ،أما في العالم العربي فكل المنظومة من تاريخ وأخلاق ومشروع وطني أو قومي وحتى الدين ونهج السلف الصالح الخ تصبح أدوات في خدمة السلطة أو نخبة السلطة ،وهذه الأخيرة مستعدة للأطاحة بكل مكونات هذه المنظومة إن لزم الأمر حتى تحافظ على سلطتها ومواقعها الوظيفية .
من حيث المبدأ فإن الوظائف العليا أو السامية التي تشغلها النخبة السياسية في الدول الديمقراطية : رئيس الدولة ،الوزراء ،أعضاء التشريعي ،كبار قادة الأجهزة الأمنية والإعلامية الخ ،فيها من التكليف والمسؤولية أكثر من التشريف ،لأن طبيعة النظام السياسي والحياة الديمقراطية تقيد فترة عمل المسئول وتُخضعه لمبدأ التداول على السلطة وهو مبدأ لا يترك للنخب السياسية أن تراكم مصالح وعلاقات ، حتى وإن تم التمديد لها فتبقى خاضعة للقانون والمحاسبة حيث لا أحد فوق القانون ،وقد رأينا رؤساء ورؤساء وزراء ووزراء يٌساقون للمحاكمة ويدخلون السجن في الدول الديمقراطية .
في الدول العربية ولأن من في السلطة لم يصلوا لها عن طريق الانتخابات أو بتوافق وطني وغالبا ما تكون شرعيتهم وراثية أو دينية متخلفة أو مستندة على الدعم الخارجي ، لذا فالوظيفة ،وخصوصا السامية ، لا تخضع لمبدأ التداول على السلطة إلا في أضيق الحدود حيث دورة النخبة تكون بطيئة ،كما أن الموظفين الكبار والنخب المرتبطة بهم يستمرون في استغلال مواقعهم الوظيفية دون الخوف من محاسبة حيث القانون قانون النظام والسلطة وليس قانون الشعب .
لأن هؤلاء الموظفين الكبار لهم امتدادات قبلية وطائفية أو تسندهم المؤسسة العسكرية أو علاقاتهم الخارجية فإن وظائفهم تمنحهم حصانة بحيث يُعتَبر المساس بهم مساس بالتوازن الطائفي أو القبلي أو بالأمن القومي من وجهة نظرهم وبالتالي يُنذر بحرب أهلية .
تموقع هؤلاء الموظفون الكبار خارج إطار المحاسبة والقانون وعدم خشيتهم من العقاب يعتبر أهم أسباب الفساد في العالم العربي وهو ما يجعلهم يتمسكون بالسلطة لأطول فترة ممكنة ويعملوا على إطالة عمرهم الوظيفي لتحقيق مصالحهم بغض النظر إن كان جودهم في السلطة يحقق مصلحة وطنية أم لا ،فالسلطة هدفا بحد ذاته ،فليس بعد الوصول للسلطة إلا المزيد من السلطة وكيفية الحفاظ عليها بأية وسيلة .
عوامل كثيرة ساعدت على صيرورة السلطة في العالم العربي هدفا بحد ذاته منها : التباس مفهوم المصلحة الوطنية ، تباعد الشقة ما بين نخبة السلطة والشعب ،تداخل الصلاحيات بين مؤسسات النظام السياسي الدستورية و مراكز القوى اللتي تتشكل خارج المؤسسات الشرعية والرسمية ،الخلط بين المهام الوظيفية والانتماءات العائلية والقبلية والطائفية ،ضعف السلطة الرقابية وغياب المحاسبة من السلطة للموالين لها والعاملين فيها ، الارتباطات السياسية الخارجية التي تعزز فساد النخبة وتسكت عنه ما دامت نخبة السلطة موالية لها ،بالإضافة إلى أن الجهات المانحة معنية بإفساد النخب حتى تبقى طيعة ومنفذة لشروط المانحين .
لتخفي نخبة السلطة فسادها وحتى تُطيل عمرها الوظيفي فإنها توظف خطابا شعبويا ، فإما تستحضر التاريخ الوطني ضد الاستعمار وتعتبر نفسها استمرارا وتواصلا معه ومع نهج قياداته الأوائل وأحيانا يتقمص الرئيس شخصية أحد القادة العظماء الراحلين ، أو تغلف خطابها بخطاب الدين والشرعية التاريخية ،أو تتحدث عن انجازات ومشاريع تنموية وهمية , أو تعتبر نفسها حامية حمى الوطن من التهديدات الخارجية ،سابقا إسرائيل والغرب أو الشيوعية واليوم الإرهاب والطائفية ودول الجوار.
أيضا حتى تُطيل النخب الحاكمة من عمرها الوظيفي وتستمر في مراكمة النفوذ والثروة فإنها تسعى لتمركز السلطة والثروة بيدها ،ولتحمي السلطة المقترنة بالثروة نفسها تلجأ لإفساد كبار رجال الجيش والأجهزة الأمنية وقادة الرأي العام من قادة أحزاب ومؤسسات مجتمع مدني ورؤساء تحرير أهم الصحف ورجال دين الخ ،بالمال والامتيازات ،كما تسعى لإنتاج نخب جديدة تابعة وظيفتها أن تكون العصا الغليظة للدفاع عن النخبة الحاكمة ،وتشكيل شبكة حماية لها بحيث تتصدى لكل من ينتقد السلطة ، ويتم إطلاق يد هذه النخب في كافة المجالات : ،نخبة تهيمن على الاقتصاد وتتقاسم الأرباح مع النخبة الحاكمة ،ونخبة تسيطر على وسائل الإعلام وتوجه الرأي العام لتبرير والدفاع عن نهج النخبة الحاكمة والتشهير بمعارضيها ،ونخبة عسكرية وأمنية الخ .
عدم تداول السلطة سلميا يؤسس للنظام الشمولي والاستبداد مما يؤدي بالضرورة إلى حالة غضب ونقمة شعبية تؤدي لانقلابات أو ثورات أو حروب أهلية .هكذا كان الحال قبل ما يسمي (الربيع العربي) وهكذا هو الحال ما بعده ،بل ما بعده أسوء مما قبله ، فهذا الربيع المشئوم أجهض إرهاصات التحول الديمقراطي وأفلت التطرف والطائفية والمذهبية والإثنية من عقالها ،كما أنه أسس لنخب سياسية تحت مسمى المعارضة تمتلك سلطات مضادة لسلطة الدولة الوطنية بل وأكثر سوءا وخطورة منها في بعض الأحيان .
بقلم/ د. إبراهيم أبراش