رسالة إلى الرئيس عشية خطابه في الأمم المتحدة

بقلم: هاني المصري

أكتب إليك هذه الرسالة عشية سفرك إلى نيويورك لإلقاء خطاب في الدورة السنوية للأمم المتحدة. ووفق ما تناثر في وسائل الإعلام والكواليس الفلسطينية قبل اللقاء مع الوفد الأميركي برئاسة جاريد كوشنر، فإن الخطاب سيكون مميزًا وأقوى من الخطابات السابقة. ولكن بعد اللقاء تسربت أخبار بأن الخطاب عدل أو يمكن تعديله على خلفية الطلب الأميركي بتخفيفه، وتعليق الخطوات التي تزمع على تنفيذها، لفترة قصيرة من الزمن تقدم فيها إدارة ترامب خارطة طريق. ويكفي ردًا على ذلك القول "اللي بجرب المجرب عقله مخرب". فما لم يحدث في عهد الإدارات الأميركية السابقة لن يحدث في ظل إدارة ترامب الأكثر سوءًا.

يُقال إن الاتصالات العربية المكثفة قبل اللقاء وبعده ساهمت في إقناعك بإعطاء الإدارة الأميركية المهلة التي طلبتها، وكانت الرسالة التي رددتها الاتصالات العربية، وحتى العبارات، واحدة، خلاصتها "أن لا بديل عن المفاوضات" و"امنح إدارة ترامب فرصة جديدة بزعم أنها جادة بالتوصل إلى اتفاق". وبلغ الاهتمام العربي لدرجة أن ولي العهد السعودي هاتفك الساعة الثالثة فجرًا من نفس يوم اللقاء.

أعرف تمامًا أنك لا تستطيع أن تهمل الموقف العربي، وأنك لست عنترة بن شداد ولا ياسر عرفات كما تردد، ولكن لا ينفع الأخذ بالطلب الأميركي المشفوع بالنصائح العربية من دون مطالبة العرب بضمان أن تقدم الإدارة الأميركية شيئًا مقابل هذه المهلة، التي تأتي بعد مضي حوالي ربع قرن على اتفاق أوسلو، فعلى الأقل على العرب أن يطالبوا واشنطن الالتزام بإطلاق عملية سياسية جادة، وبما يسمى "حل الدولتين"، وإدانة الاستيطان باعتباره غير قانوني، ويمثل عقبة في طريق السلام، كما كانت الإدارات الأميركية السابقة تردد، ولم تعد الإدارة الحالية ملتزمة بها.

هذا مع أن المطلوب منها أكثر من ذلك بكثير، وهو أن تلتزم بالسعي لإقناع إسرائيل بالدخول في عملية سياسية مرجعيتها الحقوق الوطنية الفلسطينية المقرة في القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. أعرف أن تحقيق هذا مستحيل الآن، ويتطلب كفاحًا طويلًا لتغيير موازين القوى، ولكن هذا هو الطريق، ولا مفر من توفير متطلباته إذا أردنا إنجاز الحرية والعودة والاستقلال.

ولتسهيل الأمر، يمكن ويجب المطالبة بربط منح المهلة بوقف التدهور من خلال امتناع إسرائيل عن تنفيذ خطواتها الأحادية التي تستهدف تغيير الواقع كليًا، وإيجاد واقع جديد يجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد الممكن والمطروح عمليًا، مثل التوسع الاستيطاني، وتهويد القدس وأسرلتها، وحصار غزة، والاعتقالات، وهدم المنازل، وعدم إطلاق سراح المعتقلين، حتى الدفعة الرابعة من معتقلي أوسلو التي التزمت الإدارة الأميركية السابقة بإطلاقهم في العام 2014، ولم تنفذ إسرائيل الالتزام وانصاعت إدارة أوباما لها مثلما انصاعت لها في أشياء كثيرة.

لم تكتفِ إدارة ترامب بعدم الالتزام بحل الدولتين، وإنما شرعت في التمهيد للحل الإقليمي، والكونفدرالية مع الأردن للتهرب من الالتزام بالدولة الفلسطينية، والحكم الذاتي، والسلام الاقتصادي (وكأننا لم نكتوِ بنارهما ولا نزال منذ أوسلو وحتى الآن)، وتوقفت عن المطالبة الأميركية اللفظية السابقة بوقف الاستيطان، وأعلنت أنها ستوافق على ما يوافق عليه الطرفان بالمفاوضات دون تدخلات أو ضغوط خارجية، وبالذات دولية، ما يعني وضع الضحية الفلسطينية تحت رحمة الجلاد الإسرائيلي الذي بات واضحًا للقاصي والداني أنه لا يعترف بقيام دولة فلسطينية، ولا بحق العودة، أو بحق مساواة المواطنين الفلسطينيين بالمواطنين اليهود في إسرائيل.

إن هذا الواقع الصعب والمفتوح على احتمالات خطرة للغاية يطرح ضرورة وإلحاحية تبني سياسة فلسطينية أخرى، تختلف اختلافًا جوهريًا عن السياسة المتبعة منذ اتفاق أوسلو وحتى الآن، خصوصًا بعد تغير الظروف والمعطيات المحلية والعربية والإقليمية والدولية، فلم تعد أميركا القطب الأحادي المسيطر على العالم، وفشلت مخططاتها في المنطقة رغم النتائج الكارثية التي انتهت إليها، وهذا يفتح بابًا للأمل والفرص يجب الرهان عليه.

غدًا، تمر ذكرى أوسلو، الذي يجب الاعتراف بجرأة أنه رغم بعض الإنجازات التي تحققت بفضله، وأهمها قيام كيان فلسطيني على أرض فلسطين، وعودة مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى أرض وطنهم، إلا أنه أدى إلى كارثة كاملة ينذر استمرارها بتصفية القضية الفلسطينية وليس إلى دولة، ليس فقط بسبب الأداء الفلسطيني كما سبق أن حذرت أنت نفسك بُعيد التوقيع عليه، وإنما لأن إسرائيل غير جاهزة لتسوية تحقق أي حق من الحقوق الوطنية الفلسطينية، ولو بالحد الأدنى، عدا عن أنها تحولت نحو اليمين واليمين الديني المتطرف الذي يحلم ويعمل بشكل حثيث من أجل إقامة "إسرائيل الكبرى".

استنادًا إلى ما تقدم أنصحك نصيحة صادقة، فبدلًا من الاكتفاء بإلقاء خطابات قوية وتقديم تهديدات واتخاذ قرارات تستخدم للضغط لتحسين الموقف الفلسطيني مفترض تبني إستراتيجية جديدة  تهدف إلى تجاوز أوسلو والتزاماته، وقادرة على تغيير المسار وبعث الأمل بالانتصار من جديد.

لقد جربت الحصول على العضوية الكاملة لدولة فلسطين في مجلس الأمن ولم تنجح، وليس الأولوية الآن إعادة الكرة من جديد في ظل عدم ضمان توفر الأصوات التسعة المطلوبة للتصويت، والأغلبية الكبيرة من الأصوات المؤيدة التي تمنع الخسارة الكاملة، مع معرفة أن الفيتو الأميركي يقف بالمرصاد. كما جربت التهديد بحل السلطة وقلت "أنها غدت بلا سلطة"، وأنك تنوي إعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال وبوقف الاعتراف بإسرائيل والتنسيق الأمني، لدرجة أن قرارات المجلس المركزي المنعقد في آذار2015 تضمنت ذلك، ولكنها بقيت حبرًا على ورق إما لعدم واقعية بعضها في ظل وضع وقيود والتزامات السلطة، أو لعدم توفر الإرادة السياسية اللازمة لتنفيذها.

في هذا السياق، سيكون من المفيد اتخاذ قرارات قابلة للتطبيق، مثل :

·        تفعيل القرارات الدولية المؤيدة للقضية الفلسطينية، وبالذات تفعيل العضوية الفلسطينية في مؤسسات الأمم المتحدة، وتحديدًا في محكمة الجنايات الدولية، والشروع فورًا وقبل الخطاب في توقيع طلب الإحالة حول جريمة الاستعمار الاستيطاني، وسيكون وقع هذا الإجراء أبلغ كثيرًا من عبارات مثل "سأفعل، وسأقوم" ... إلخ.

·        إعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية على أساس القواسم المشتركة والمشاركة السياسية الحقيقية، باعتبار الوحدة ضرورة لا غنى عنها وليست مجرد خيار من الخيارات، فالذي يريد أن يواجه المخططات الاستعمارية الاستيطانية العدوانية الاحتلالية لا يستطيع أن يواصل اعتماد سياسة الانتظار والبقاء حتى من أجل الحفاظ على الوضع الراهن، الذي أثبتت التجربة الطويلة أنه لا يمكن المحافظة عليه إلا من خلال مواجهة مدروسة ومتراكمة ومتعاظمة.

·        توفر الإرادة الفلسطينية لإعادة بناء مؤسسات المنظمة لتضم الجميع، وتكون قولًا وفعلًا الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وفي ضوء ذلك، لا بد من إعادة النظر في شكل السلطة وطبيعتها ووظائفها والتزاماتها لتكون سلطة مجاورة للمقاومة، وأداة من أدواتها، وسلطة إدارية خدمية بعد نقل الصلاحيات السياسية منها للمنظمة.

إن هذا التحول الجوهري في واقع السلطة قد يؤدي إلى انهيارها، ولكن ستكون المنظمة المعاد بناؤها بديلًا جاهزًا، ويؤدي ذلك إلى تغييرات واسعة في أولويات السلطة، وخصوصًا في الموازنة، بحيث تأخذ القدس والصحة والتعليم والزراعة والصناعة والمناطق والأراضي المهمشة وغيرها حصصًا أكبر بشكل ملموس من الحصص التي تأخذها حتى الآن في الموازنة على حساب الأمن الذي يبتلع نسبة كبيرة، ومن خلال تنفيذ خطة تقشف شاملة وجادة تقوم على محاربة الفساد والتضخم وسوء الإدارة والمحسوبية والجهوية والعائلية .

سيادة الرئيس، سيكون أقوى بكثير أن تلقي خطابك وتلتقي بترامب بعد أن تكون قد أعلنت رؤيتك وخطتك المضادة، واتخذت قرار الإحالة حول الاستيطان، وقدمت مبادرة قادرة على تحقيق الوحدة.

في هذا السياق، سيعكس خطابك عدالة القضية وتفوقها الأخلاقي، ويسرد الرواية التاريخية بكل ما تحمله من معاناة وصمود وبطولة، ويحدد المطالَب المشروعة الفلسطينية، ويتضمن الاستعداد للسلام، على أساس أن من يريد السلام عليه الاستعداد للحرب كما قال شارل ديجول؛ عندها ستجد الشعب الفلسطيني بأسره يقف وراءك، الأمر الذي سيدفع العالم كله، بما في ذلك حكام واشنطن وتل أبيب، إلى الاستماع لك جيدًا، وأخذ خطابك بالحسبان وعلى محمل الجد.

بقلم/ هاني المصري