إن الشعوب الحية هي الشعوب التي تحفظ على ذاكرتها التاريخية والأثرية كجزء هام من الهوية الوطنية التي تبقي على العقل الجمعي، وتعززه في مواجهة التحديات التي تواجه الوطن والقوم والأمة. وقد شاهدت أثناء إقامتي في أوروبا وتجوالي في العديد من بلدانها كيف يشغل الاهتمام بالمواقع الأثرية وإقامة المتاحف الوطنية في كل مدينة جزء كبير من تفكيرها وأدائها. حيث إن الحفاظ على المواقع الأثرية يشكل تعزيزا لعمق وعي الأجيال بانتمائهم لحضارات قامت في بلادهم، ولأجيال سالفة كان له الدور الكبير في تحريك عجلة التاريخ، والدور الأكبر في النشاط البشري الحضاري، والتراكم المعرفي الإنساني. ومن هنا فإن الآثار والتاريخ هم ركن أساس في بناء الهوية الوطنية والذاكرة الجمعية. فمن لا ماض له فلا حاضر له ولا مستقبل. وقد زرت مواقع أثرية كثيرة، ومتاحف وطنية أكثر فكان ذلك تعبيرا عن أمم لها جذور وأعماق في التاريخ والحضارة الإنسانية. فقد شاهدت في مواقع أثرية في قبرص كيف يتم بناء جسور خشبية على المواقع الأثرية الثابتة من أجل عدم وطء الزوار والسائحين لأرض الموقع الأثري مما يعرضه للتدمير والانهيارات المتكررة. وهذا يدل على مدى الاهتمام بالحفاظ على هذه المواقع كجزء من الهوية وفي الوقت نفسه مصدر من مصادر الدخل السياحي.
وإن كانت الشعوب الأخرى بحاجة للحفاظ على تراثها درجة فإن الشعب الفلسطيني بحاجة للحفاظ على آثاره وتاريخه عشرات بل مئات الدرجات لأن الشعب الفلسطيني يواجه مشروعا صهيونيا إحلاليا. فهو يستهدف الإنسان الفلسطيني وتاريخه وحضارته وهويته وذاكرته لأنه يقدم رواية أثرية وتاريخية مختلفة للإنسان والمكان. فهو مشروع يقوم على إدعاءات توراتية تحاول أن تستمد وجودها واستمراريتها من إدعاءات أثرية وتاريخية مزيفة. فنحن كشعب فلسطيني نمتلك التاريخ والحضارة وهوية وآثار المكان مما يؤكد الرواية الفلسطينية بلا رتوش ولا تزييف. ولذلك فإن محاولة النيل من تاريخ وحضارة وآثار المكان لا يمكن تبريره، ولا يمكن التسليم بذلك تحت أي ذريعة من ذرائع الحاجة والانتفاع العام أو الخاص. ومن هنا فإن محاولات تجريف موقع تل السكن في وسط قطاع غزة لا يمكن تبريره أو قبول ذرائعه مهما كانت. فهذا الموقع الذي أثبتت الدراسات الأثرية أنه يشكل موقع أثري ثابت لقرية أثرية بنيت قبل بناء الأهرامات المصرية بنحو آلف سنة، وأنها تعود إلى الفترة الكنعانية أي نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة عام قبل الميلاد مما يرجح بأن تكون هي موقع مدينة غزة القديمة. فهذا الموقع الأثري الهام قد طالته يد التخريب والتدمير في السنوات السابقة تحت ذرائع عدة منها النفع العام والخاص. ولا تزال آلة التدمير والتخريب قائمة مما يؤكد جهل القائمين على الأمر بأهمية التاريخ والآثار والحضارة في الهوية الوطنية والعقل الجمعي الفلسطيني. ويضعهم في نفس الجانب للمتطرفين والمتعصبين من حركة طالبان عندما قصفت التماثيل الأثرية في أفغانستان تحت ذرائع وفتاوى دينية متخلفة وظلامية. فإن الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين لم يدمروا أثار البلاد التي تم فتحها في بلاد الشام والعراق ومصر وأفغانستان، وقد أبقوا على هذه الآثار كما هي احتراما للنشاط الإنساني الحضاري حتى لو كان يخالف المعتقدات الإسلامية. فهل ممن يدعون الإسلام الآن وينصبون أنفسهم ناطقين باسمه أكثر إسلاما وإيمانا من الصحابة والتابعين.
إن تدمير الموقع الأثري والنيل منه لأي ذريعة أو هدف هو ضرب للذاكرة الفلسطينية التي أبقت القضية الفلسطينية في الوعي الشبابي الفلسطيني. بل إن عظمة الشعب الفلسطيني هي قدرته على إبقاء ذاكرته حية في العقل الجمعي للشباب والأجيال الجديدة. فقد كانت القيادات الإسرائيلية مثل غولدامئير تراهن على ضياع وتيه الذاكرة الفلسطينية عندما قالت عبارتها المشهورة الكبار يموتون والصغار ينسون. فكانت عظمة الكبار والآباء بأن نقلوا ذاكرتهم عن القرية والتهجير واللجوء إلى أبنائهم وأحفادهم، وجعلوا أحفادهم أكثر تمسكا بالأرض والهوية، وحملوا راية الانتفاضة الفلسطينية سنة 1987م، وانتفاضة الأقصى 2000م، وانتفاضة الأقصى الحالية دفاعا عن هوية وتاريخ وقدسية المكان. ومن الجدير بالذكر أن سلطات الاحتلال حاولت طيلة سنوات احتلالها على نهب وتدمير المواقع الأثرية في قطاع غزة، ولم تتوقف هذه المحاولات حتى الأيام الأخيرة من الخروج الاحتلالي العسكري من قطاع غزة. وأن مئات بل آلاف القطع الأثرية تم نهبها من وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشي ديان، وكذلك ممن أتى بعده في محاولة لحرمان الشعب الفلسطيني من ثروته القومية وذاكرته الوطنية. وفي محاولة لسرقة الآثار ونسبها لهم، وتزييف الوعي المحلي والإقليمي والدولي بخصوص الشعب الفلسطيني وحضارته وتاريخه واستمرارية وجوده على هذه الأرض منذ آلاف السنين.
ولذلك فأن النيل من تاريخية وذاكرة المكان لا يمكن القبول بها، ويجعل القائمين عليها في مصاف أعداء الوطن الذين يحاولون النيل من ذاكرة الشعب وآثاره وتراثه وهويته وذاكرته الجمعية. فإن النيل من آثار الآباء والأجداد هو طمس للهوية الوطنية الذي يكافح الشعب الفلسطيني من أجل الحفاظ عليها في وجه مشروع صهيوني غاشم. وأن المعركة مع الجانب الصهيوني ليست معركة عسكرية وسياسية واقتصادية فقط بل معركة حضارية يدخل التاريخ والآثار والتراث جزءا مهما منها. بل هو الجزء الأهم كون الجانب الصهيوني يستند في غزوه وهجومه في إقامة كيانه على رواية أثرية وتاريخية مزيفه للمكان.
ولذلك على الجميع أن يهب للدفاع عن آثار آباءه وأجداده، وأن يهب للدفاع عن هويته التاريخية والحضارية التي تستهدف الذاكرة الجمعية الفلسطينية، وتعمل على تزييف وإضعاف ذاكرته في مواجهته الحضارية العادلة للمشروع الصهيوني. فقد أصابت آلة التدمير والتجريف الكثير من موقع تل السكن كما أصابت الكثير من المواقع الأخرى بحجج وذرائع شتى، وآن الأوان أن يقال كفى لهؤلاء الذين يعيثون في ذاكرة الشعب وتاريخه وهويته فسادا تحت ذرائع واهية.
بقلم/ أ.د. خالد صافي