من وماذا بعد نتنياهو؟

بقلم: جواد بولس

قد تبدو إسرائيل للناظرين عن بعد أنها كيان من أنسجة متناسقة، ولا يفرق بينها ما يفرق بين شعوب الدول الأخرى، وتتفاعل بداخله وتخدمه مجموعات بشرية وأطر سياسية متآلفة ومدفوعة بالمصالح والرؤى العقائدية ذاتها ومفهومية المستقبل ذاته، فعند هؤلاء الناظرين من بعيد يظهر كل اليهود في إسرائيل وكأنهم "زريعة" واحدة، ولا فرق بين موسى وموسى إلا بطول "العصا".
عوامل كثيرة تبرر وقوع الكثيرين في هذه "المغالطة البصرية"، خاصة إذا ما اعتمدنا، بحس عفوي وببساطة شعبية، تاريخ ممارسات الحركة الصهيونية، بفصائلها وتياراتها المختلفة، تجاه الشعب الفلسطيني، قبل النكبة وبعدها، وإبان النكسة وبعدها، فهنا سنجد توافقًا مبدئيًا أساسيًا على معظم الأهداف الصهيونية الرئيسية ووسائل تحقيقها، وحتى عندما بدوا انهم مختلفون أحيانًا كانت تلك خلافات طفيفة حول طرق الإخراج ومَنتجة مشاهد القمع الذي مارسته تلك المنظمات.
لقد أنتجت تلك المفاهيم المتمايزة، بعد النكبة، أحزابًا صهيونية، وحركات متعددة تصارعت على مقاليد الحكم في دولة أحاطوها بحدود من ماء ونار وبظلال زرقاء وبيضاء عدمية.بموازاة عمليات بناء مؤسسات الدولة، انتبهت جميع القيادات الصهيونية إلى ضرورة الإبقاء وحتى تغذية ظاهرة "التنميط الفكري" العربي، التي برزت أيام الصراع الأولى ورافقته، فسخروها لصالحهم بحكمة وعناية، واستفادوا منها ومن الجهل المتفشي حولهم، فاستعدى كل العرب بغريزية قبلية كلّ اليهود، في حين كانت السنوات تمضي وإسرائيل تكبر وتقوى وتضرب وتحتل وتضم وتقمع وتتاجر وتبيع وتشتري وتزحف وتطير وتبحر وتغير وتتغير.
لم ألجأ إلى هذه المقدمة القصيرة لأثير مسألة تاريخية مهملة، أو إغواءً أكاديميًا مجردًا، ولا كي أقحم ملايين العرب والمسلمين في قضية لا تمسهم بشكل مباشر، حتى إن ادّعوا ذلك من باب الشعار أو الشعور أو الشعائر، بل لأنني أشعر في الآونة الأخيرة، بأن داء "التنميط" العربي وأسلوبه في "الاعلام الموحد" قد دب بين صفوفنا، نحن الجماهير العربية المواطنة في اسرائيل، وعلاماته ظهرت مع توقف معظم القادة عن محاولات تفكيك الأزمات إلى عناصرها المؤلفة، وإيثارهم التعاطي مع واقعنا المرير بشمولية شعارتية قاصرة، تعتمد عند كثيرين منهم فرضية كون كل اليهود أعداء متشابهين.
لقد أشغلت الأسئلة من هي هذه الإسرائيل؟ ومن يحكمها، وكيف؟ وما يميز بين مركباتها السكانية؟ وماذا يحصل في أوردتها وشرايينها وإلى أين تمضي ونمضي نحن معها أو بدونها؟ قادة الأقلية الفلسطينية التي صمدت في وطنها يوم شٓرِق من أغوته سحب الشرق وبروق سمائه الخلب، ولولا مواجهة هؤلاء القادة بشجاعة ودراية وقراءة صحيحة لواقع المنطقة الجديد، لما نجحوا بحماية بقاء أقلية واعية أفسدت عمليًا بصمودها نجاح إقامة دولة يهودية خالية من العرب.
لم يغب مشروع بناء إسرائيل الكبرى اليهودية النقية من الأغيار عن بال حكام إسرائيل طيلة السبعة العقود الماضية، وعلى الرغم من تمسك معظم القيادات الصهيونية بقرون ذلك الحلم، راعى قادة التيارين الأساسيين اللذين تعاقبا على سدة النظام، حتى وهم يطبقون سياساتهم العنصرية القمعية بحق المواطنين العرب، تأمين حد أدنى من الحقوق الفردية الأساسية للجميع، استيعابًا منهم لأهمية العلاقة بين الدولة ومواطنيها، وإخضاعها لمنظومات إدارية تتصرف وكأنها لا تفرق بين المواطنين اليهود وغير اليهود، وتحترم مبدأ سيادة القانون ومساواة الجميع أمامه وإن كان بشكل منقوص وأعرج.
لقد مهّد لهذه الممارسة مؤسس الدولة دافيد بن غوريون وحزب "المباي" وشركاؤهم الأوائل، وتبناها بعده من ورثوا الحزب على تحولاته اللاحقة، ثم تبعهم مناحيم بيغن وحركة "حيروت" ومن تلوه، وجربوا سياسات عنصرية متنوعة في حق المواطنين العرب، لكنهم مارسوها، في أغلب الأوقات، من داخل ذلك الوعاء المفاهيمي العام الناظم لعلاقة الدولة الملتبسة مع مواطنيها العرب. لم يستمر الوضع كما كان عليه، فمنذ سنوات قليلة بدأنا نشهد انقلابًا سياسيًا جذريًا، يستهدف تقويض أواصر تلك العلاقة وعناصر التعايش القائم. فاليمينيون الجدد يرفضون حل القضية الفلسطينية على أساس إقامة دولتين، ويمارسون سياسة "الإحلال" الخشن وإحكام السيطرة الإسرائيلية الكاملة على الأراضي المحتلة عام 1967 ويعملون على تهجير الفلسطينيين أو زجهم في كانتونات محاطة بالأسوار والقمع، علاوة على إصرارهم على ضرورة الاعتراف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي، ووجوب تطبيق ما يستتبعه ذلك وأهمه الإقرار بأحقية اليهود في مميزات الدولة ومقدراتها ومطالبة سكانها العرب بالرضوخ لتلك الفوقية وهم صاغرون.
إنها مجموعات منظمة وقوية، تخطط بمنهجية إلى نسف علاقة المواطنة الهشة بين الدولة وسكانها العرب، وتدفعهم بإصرار ليختاروا، كما اقترح عليهم نائب رئيس الكنيست بتصلئيل سموطريتش، وهو أحد نجوم هذا العصر، في احدى الجلسات التي تحدث فيها أمام نخب من السياسيين الصهاينة المتدينين، عما سماه "خطة الحسم" وفيها قدم للعرب ثلاثة خيارات، وطالبهم باختيار أحدها كي يتحقق الحل على طريقته، والحلول هي "إما مغادرة البلاد، أو القبول بالعيش تحت حكم إسرائيل لكن بحقوق أقل درجة من المواطنين اليهود، وإما مقاومة إسرائيل وعندها سيقوم الجيش بما يلزم".  
ليس من الصعب استحضار مئات الشواهد العملية لتشخيص معالم الفاشية القريبة منا وتبعاتها علينا وعلى فئات يهودية وصهيونية معارضة لتلك القوى المتطرفة، ولنا في عشرات القوانين العنصرية التي شرعتها الكنيست في الأعوام الأخيرة شواهد على ما يخطط له هذا النظام. قد يكون أبرز من تفوه في السنوات الأخيرة بعنصرية صارخة وحاقدة ضد العرب وضد معارضيه اليهود هو رئيس الحكومة بيبي نتنياهو، لكنه ليس الأخطر بنظري، فهو مهما "شٓبٓط ومهما لٓبٓط بِتضل ريحة الرحيل فيه" وسيؤول الحكم بعده لمن يؤمنون بمثل ما يؤمن به وزير المعارف، بينت، ووزيرة العدل شاكيد، وسموطريتش، وحزان وأمثالهم من أصحاب "عقيدة الفولاذ"، فجميعهم يتصدرون الحملات الضارية على مقاسم الدولة "القديمة"، وعلى رقاب مؤسساتها "المتراخية المتهادنة"، حسب تعابيرهم، والمطأطئة رؤوسها أمام ما يسمونه بسخرية منظومات حقوق الإنسان والمواطن الأساسية. لا يجوز لنا أن ننام "عن ثعالبنا" ولا يحق لنا أن نحيا على نشوة السراب ووعود القدر، فعندما نقرأ ما صرحت به وزيرة العدل أيليت شاكيد قبل أيام، في احتفال افتتاح السنة القضائية في تل أبيب، يجب أن نقلق ونخشى من دنو العاصفة، وشاكيد تمثل اليوم صورة إسرائيل المستقبل ومن حنجرتها ينطلق صوت النار، ومارشات الانتصارات الساحقة.
لم تتردد ولم تتجمل ولم تتستر، بل وجهت حديثها إلى مئات الحاضرين، وفي مقدمتهم رئيسة المحكمة العليا الإسرائيلية والمستشار القضائي للحكومة والمدعي العام للدولة وعشرات القضاة والمحامين، معلنة بحزم بأنه "على الصهيونية أن لا تستمر، وأقول لكم هنا هي لن تستمر بطأطأة رأسها أمام منظومة حقوق الانسان المعرفة حسب مفاهيم عالمية.." ثم فتحت نيران هجومها الكاسح على الجهاز القضائي لأنه "توقف عن أخذ دوره في الحرب الوجودية على الدولة، وعلى قدرة الشعب اليهودي بادارة حياته كمجتمع ودولة ". وأصرت على استعراض مبادئها مؤكدة على أن الحل سيكون عن طريق تخصيص مكانة دستورية مميزة لجميع القيم القومية اليهودية، وتحصينها في تشريع قانون أساس القومية اليهودية الذي "سيحدث تغييرًا شاملا وثورة قيمية وسياسية".
شاكيد تعلن، ببساطة، أمام أركان سلطة القضاء والعالم موت النظام القديم، وبعث دولة إسرائيل اليهودية الكبرى، دولة الأسياد، وهي إذ تستهدف بذلك جميع المواطنين العرب والفلسطينيين، لا تستثني عددًا من الأهداف اليهودية التي لا توافقها الرأي ولا تجتمع معها تحت القبة والهياكل نفسها. لم تتحدث شاكيد باسم دولة، بل باسم "صهيونية مطلقة"، وكأنها تعلن أن الدولة لديها ما زالت مجرد حالة غير معرفة، أو "مخلوق" يتشكل وينمو ويتطور وسيصبح ناضجًا فقط في كيان سيقام على كامل التراب التوراتي، حيث ستكون "السماء" حدوده ولليهود فيه ما يستحقونه كأبناء الله المختارين.
عناوين المرحلة المقبلة مكتوبة أمامنا على الجدران، ولأسفي لم تجب عليها قيادات العرب بما يليق، ورسم الدم النافر من حروفها وأخشى انهم لن يجيبوا عليها. فماذا يجري في إسرائيل ومن يحكمها، وكيف، وما الفوارق بين مركباتها السياسية ومجموعاتها السكانية، وماذا يحصل في ساحتها وكنسها وإلى أين تمضي ونمضي نحن معها أو بدونها.. كلها أسئلة معلقة في رقابنا وتبحث عن قادة وعقال.
إسرائيل تتغير للأسوأ ونحن.. أسنكتفي بما عودنا عليه إعلام العرب الموحد وتأكيده على أن كل اليهود صهاينة، وكل الصهاينة سموطريتش وهؤلاء أفضل للعرب من الصهاينة الآخرين المتلونين؟ فدعوا اليهود يتجبرون ويتقاتلون لأننا إلى النصر أقرب! كم نحن أقرب؟ أفيقوا واسمعوا ما يقوله "السموطريتشيون" وحلفاؤهم واكسروا القوالب واخرجوا إلى البيادر وشوارع إسرائيل وفتشوا عن كثير من "القطران" وعن الحلفاء قبل أن تُفتح بوابات الشرق مجددًا أو تعلق أعواد المشانق.

جواد بولس
كاتب فلسطيني