كان الدكتور محمد اشتية جريئاً وواضحاً وصريحاً، إلى حد الألم، وذلك في الندوة التي دعت إليها وزارة الإعلام في فندق جراند بارك الخميس الماضي، وعلى مدى ساعة كاملة، عرض الدكتور اشتية ما تفكر به القيادة الفلسطينية على تعدد مستويات هذه القيادة.
ولم يخف القائد الفتحاوي شيئاً، لم يختف وراء الكلمات ولا التعابير الفضفاضة أو الغامضة، قال بدقة إن الظروف والشروط التي قادت إلى توقيع اتفاق أوسلو لم تعد قائمة، كما أن الاتفاق لم يعد قائماً أيضاً، ولم يبق منه سوى المقاصة، وقال إن هذا الاتفاق الذي كان من المفروض أن يخدم الشعب الفلسطيني بالدرجة الأولى، تحول الآن ليخدم أطرافاً أخرى أكثر من الشعب الفلسطيني، ولكن ذلك – يضيف د. اشتية – لا يعني حل السلطة الوطنية الفلسطينية أو تفكيكها، لأنها جاءت نتيجة نضالات وتضحيات الشعب الفلسطيني، بل يعني إعادة تعريف دور ووظيفة السلطة الوطنية لتتحول إلى سلطة تقود نضالاً شعبياً يعيد توازن مفقود مع المحتل.
د. اشتية، وبوضوح كامل، قال إن العجلة التفاوضية التي استمرت طويلاً، عانت من أوجه خلل كثيرة، تمثلت في عدم وجود مرجعيات واضحة ومحددة يتم من خلالها تحديد التعريفات والمبادئ والأسس
لهذه العملية، كما أن هذه المفاوضات كانت تجري دون أن يصاحبها إجراءات الثقة التي تسهل هذه المفاوضات أو تجعل لها قيمة أو مصداقية، كما أن الطرف الإسرائيلي لم يكن يفاوض ليجد حلاً، بل على العكس من ذلك، فإن هدف التفاوض كان إضاعة الوقت أو إدارته أو الالتفاف عليه، إلى ذلك، فإن العملية التفاوضية كانت – وما تزال – تجري بدون إطار زمني، وكان الزمن هو أكثر الأشياء رخصاً في فلسطين، فإن التفاوض كان يجري دون وجود وسيط نزيه، فقد أثبتت الولايات المتحدة الأمريكية أنها بلا دور فعلي، فلا هي وسيط ولا مراسل ولا سمسار ولا ميسر، بل أصر الإسرائيليون دائما ً على أن لا يتواجد الوسيط الأمريكي على طاولة المفاوضات، كان الدكتور محمد اشتية واضحاً في توجيه اصبع الاتهام إلى الدور الأمريكي "التاريخي: في عدم القدرة على التوصل إلى أو النية في الضغط على إسرائيل من أجل التقدم ولو خطوة واحدة باتجاه الحل، أما فيما يتعلق بالخلل الأخير الذي اعترى، وما يزال، العملية التفاوضية – حسب الدكتور اشتية – فهو عدم وجود نوايا للحل، سواء أكان ذلك من الطرف الإسرائيلي أو من الطرف الأمريكي، وفي هذا، فإن الدكتور اشتية، وبعد 25 سنة من اتفاق أوسلو، فإنه يكشف تواطؤ الأطراف المختلفة التي فشلت في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ولكن هذا الواقع لم يدفع د. اشتية إلى التبشير بالتشاؤم أو الاستسلام، فقد قال إنه وعلى الرغم من أن المطروح – إسرائيلياً وأمريكياً – هو حكم ذاتي بدون الغور وبدون القدس وبدون الكتل الاستيطانية، إلا أن الشعب الفلسطيني استطاع الصمود والبقاء والاعتراض وإفشال كثير من التسويات المجحفة، وأن تعميق التنسيق العربي مع المصريين والأردنيين والسعوديين مهم جداً لاعتراض ما يراد للقضية من تغييب أو إجبار على التعايش مع الاحتلال من خلال بوابة إقليمية واسعة، كما أن إسرائيل – بتعنتها وإدارة ظهرها للتسوية العادلة – فهي مقبلة على أخطار عديدة، من أهمها الخطر الديموغرافي الذي ينعكس على طبيعة إسرائيل وهويتها وتحدياتها الأمنية المستقبلية، فلا يمكن لإسرائيل أن تكون يهودية وديموقراطية إذا كان الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية أكثر من الإسرائيليين اليهود فيما سيأتي من سنين، كل هذا يؤدي – حسب د. اشتية – إلى أن الوضع يتجه بشكل حثيث نحو المواجهة مع الاحتلال بشكل أو بآخر، لأن إسرائيل الحالية، وربما المستقبلية، لا تفكر بإنهاء هذا الاحتلال أو حتى التخفيف منه.
كانت محاضرة غنية وثرية وجريئة، ونقول إن هذا الخطاب الذي يحمل في طياته المكاشفة والمراجعة، هو خطوة ضرورية لبحث البدائل والخطط الاعتراضية من جهة، ولمواجهة السياسة الإسرائيلية الجديدة التي تقوم على الاحتلال والسيطرة والإخضاع من جهة أخرى، فإسرائيل هذه الأيام لا تشبه إسرائيل سنة 1994، كما أن العالم تغير أيضاً.
هذه المراجعة، بهذا النوع من الخطاب الصريح والجريء، كان من الواجب أن يعلن بأننا كفلسطينيين، نتحمل المسئولية، خاصة من يتبوأ القيادة، وهذا سيجعل من السهل إدارة الحوار الداخلي مع الشركاء السياسيين الآخرين، وسيكون من السهل أيضاً تأسيس قاعدة جديدة للانطلاق من جديد، وتجديد الدماء ونفض الغبار عن المؤسسات المعطلة أو المجمدة، ومن ذلك المجلس الوطني الفلسطيني، الذي سيكون من الضروري انعقاده سريعاً بمشاركة كل من يؤمن بالحل المشترك والهدف المشترك.
المصارحة لا تعني المحاسبة وتوجيه الاتهامات ووضع الناس في الأقفاص، بقدر ما هي الطريق الأوضح لإعادة جرد الحسابات وتعظيم الأرباح وتقليل الخسائر، خطاب المصارحة والمكاشفة يعني أن قيادتنا، على تعدد مستوياتها، بخير، وأنها قادرة على التواصل مع ذاتها ومع شعبها ومع محيطها، وبإمكانها أن تمارس النقد الذاتي، وأن تصارح شعبها، هذا الخطاب دليل عافية، ورغبة من صاحبه بأن يصل مع جمهوره إلى رؤية تعزز صمود الموقف الفلسطيني، وتعظم قدراته.. بعد كل هذا، ننتظر من القيادة خطوة إلى الأمام، وعقد المجلس الوطني الفلسطيني، على أرضية هذا الموقف المتطور، بما يسمح في توسيع القواسم المشتركة بين فصائل العمل الوطني، وإلى حينه، نتمنى من القيادة الاستمرار في جلسات الحوار هذه.
اللواء د. محمد المصري
16/09/2017