مطارد فجريح فمبعد فشهيد فجثمان عائد ليدفن في تراب تدنسه البيروقراطية !
442004 ... هو ذا تاريخ القدر البشري و الطبي و المنطقي .. التاريخ الذي قدرت فيه المخابرات الإسرائيلية أنه سيكون نهاية حياة الشاب خالد خريوش . القدر الذي تلقاه أهله و اصدقاؤه و رفاقه و محبيه بالرضا او الصبر او الغضب او الحزن . قدر أقرته عيون من حملوه نازفا تتثاقل أعضاء جسده.. و أشلاءٌ تطايرت من رأسه و وجهه بعد إصابته برصاصة من عيار ٢٥٠ أتته من فوق عمارة خلفه لتغيبه بشكل كلي، فيما رفيق دربه ( رامي هديب ) كان يتألم لإصابته في بطنه برصاصةٍ شقيقةٍ لرصاصةِ رفيقه ، إصابة ما منعته من الوصول الى المستشفى على قيد الوعي و التألم.
خالد شهيد .. و رامي أصيب . ملخص الخبر الذي انتشر في المخيم و تناولته وسائل الإعلام . و الكل يتابع اخر تطورات حصار قوات الإحتلال للمستشفى لإعتقال الإثنين . تهدأ الأجواء و تنسحب القوات ليتكشف القدر الإلهي بإستشهاد رامي هديب و اعتقال المصاب خالد خريوش ! قدر إلهي لا يعترف بتقديرات البشر و حساباتهم و ما تراه عيونهم و تصدقه عقولهم و تطمئن له مشاعرهم . لقد كان يوما يعلمنا درسا راسخا أفضل بمراحل من آلاف الأحاديث النبوية الشريفة التي نحفظها عن ظهر قلب لنرددها عن ظهر قلب. لقد جمعت المخابرات الصهيونية و قواتها عتادها و عديدها و قررت إنهاء حياة خالد خريوش بسبب اتهامه بالمسؤولية عن عملية استشهادية فصدقهم الطب و الأهل و الأصدقاء و الناس و لم تصدقهم نبضات خالد و روحه التي لا تموت ! فتعتقله القوات الإسرائيلية تحت تأثير الغيبوبة و الشلل التام بعد تهتك جمجمته و دماغه و وجهه .
يُشيَّعُ رامي الى جوار ربه و يُعتقل جسد خالد ( الميت سريريا ) لتجرى له ٦ عمليات جراحية صعبة في الدماغ في مستشفيات إسرائيل ليظل رهين الإعتقال السريري لأشهر دون فائدة او تقدم حتى تيبست مفاصل جسده المشلول أصلا في غياب تام لوعيه و نور عينيه و عين أمه و ذويه .. تنتهي الأشهر و ينتهي الأمل لدى الإسرائيليين في حياة ممكنة لمطلوب خطير .. و ينتهي معه القدر الإسرائيلي ببعث الحياة في جسد يتم تحضيره للتعذيب او الإعتقال كما فشل سابقا القدر الإسرائيلي بإنهاء حياته .. فيقررون تسليمه لمستشفى أريحا و من ثم إلى رفيديا ليرقد جسده الميت سريريا أشهر أخرى بانتظار إعلان المستشفى موته رسميا.
الجميع كان ينتظر خبر وفاة خالد .. و انتظرت روح خالد طويلا حتى تسترد جسده المقيد باللاوعي و اللاحركة. و فعلا و ببطؤ شديد بُعث خالد من جديد و بدأت أعضاؤه واحد تلو الآخر تشق طريقها إلى الحياة .. حياة تبعث من جديد على أعين مرافقيه فحفظوا له اول فتحة عين و أول نظرة و أول شربة ماء و اول لقمة مطحونة و أول ابتسامة و أول جلسة مائلة على سريره و أول شردقة و أول زيارة لوالدته و والده و اخوته و أول أنشودة سمعها و تمتمها دون أن يفهم أحد غير ان خالد حي و أن هنالك أمل في بقائه .. كل شيء فيه بدأ من الصفر كمولود جديد في مستشفيات نابلس حتى انتهى به الأمر بعد عدة أشهر جليس الكرسي المتحرك بانتظار أن يُسمح له بالسفر خارج الوطن لاستكمال العلاج الحركي و التجميلي .. يأتيه الرفض الأمني من قبل موفاز رغم التنسيقات و تدخل المؤسسات .. و بعد محاولات كثيرة سمح له بالخروج بشرط عدم العودة الى الضفة الغربية لمدة ٤ سنوات .. لقد سُمِحَ له بالنفي العلاجي! لينتقل إلى مستشفيات الأردن .. ثم الى سوريا و روسيا و إيطاليا و كثير من البلاد ليعود الى سوريا ثم ليضطر بعد اندلاع الثورة للإستقرار في الأردن و استكمال علاجاته فيها .
تمر السنون لتعد له عشرا .. ثم يأت القدر الإلهي ليعلن استشهاد خالد خريوش .. عشر سنوات من الألم و الأمل و الصراع من اجل البقاء رغم أنف القرار الإسرائيلي .. عشر سنوات من الصبر و الإستهزاء بكل القوانين البشرية للحياة من قبل خالد . عشر سنوات من الرضا التام بنصيبه وقضاء الله فيه و له .. عشر سنوات تعلم فيها كل من حول خالد معاني الصبر و القضاء و القدر و الجلد و العناد و المقاومة حتى آخر نفس .
عشر سنوات لتتجلى البيروقراطية الفلسطينية بأسوأ ما فيها ! عاملته وزارة الصحة كجريح طوال العشرة سنوات و كان اهله يتقاضون راتب ( ٦٠٠ ) شيقل .. و تحملت أسرته مصاريفه و مصاريف مرافقيه في الداخل و الخارج بنفس المبلغ و رفضوا زيادة معاشه بشكل يتناسب مع نسبة العجز التي لديه كما هو معروف بحجة ان التقارير يجب ان تصدر من وزارة الصحة الفلسطينية لتعترف بنسبة العجز .قالوا لهم اعتمدوا تقرير المشافي الفلسطينيه رفضوا. و رفضوا عرضا من اهل الشهيد لارسال لجنة طبية على حساب أهله الى الاردن لمعاينة حالته و كتابة تقرير مناسب . ليظل الوضع على ما هو عليه طوال العشرة سنوات .
يستشهد خالد في سنة ٢٠١٣ بسبب مضاعفات ناتجة عن اصابته في الدماغ الذي تستقر فيه شظايا الرصاص ثم يبدأ فصل جديد من القهر و البيروقراطية و مساوئها بحق اهله .. حيث ترفض الوزارة الإعتراف ب خالد كشهيد !! بحجة ان القانون لا يعتبر المصاب المتوفي شهيدا إذا توفي بعد ٣ سنوات على الاصابة ! كل كل هذا رغم أن خالد أمضى العشر سنوات في المستشفيات للعلاج ( يعني لم يتعافي و من ثم توفي ) ..و كل هذا برغم ان الوفاة كانت ناتجة عن الاصابة ! و كل هذا برغم كثير من المناشدات التي اطلقتها والدته لكثير من المسؤولين و المعنيين باعتماده شهيدا في سجلاتهم للحصول على حقوقها كوالدة شهيد و ارملة لتحيا حياة كريمة !
ما يثير السخرية .. أننا كفلسطينيين إعترفنا بكل شيء و بكل لاشيء ! .. إعترفنا بإسرائيل و بالواقع و بموازين القوى ودهاليز الكذب الجاري على السنة كل الواعدين و الدجالين في العالم ... اعترفنا بكل شيء ... و تحجرنا و دب فينا العناد و الراديكالية و تمترسنا خلف مبدأ في قانون جعلنا حروفه أقدس من آيات الكتب المقدسة في مسألة ( الإعتراف بخالد خريوش كشهيد في السجلات الدنيوية ) ! لم تقنعنا حالة خالد ولا صوره و لا تقارير مستشفياته و لا شظايا الرصاص المدفونة في راسه للإعتراف به كشهيد ! متصلبون جدا نحن في الوقوف على حرفية الكلمات في قانون لا يعرف شيئا عن كرامة أم و حقوق المناضلين !
( أفتخر بإبني .. و بأنه كان عدوا لإسرائيل مطاردا و جريحا و مبعدا و شهيدا .. و احتسبه عند الله شهيدا لله و الوطن ) ..
أظنها كلمات كافية من والدة الشهيد ليرد لها حقها بالعيش الكريم مثلها مثل باقي ذوي الشهداء دون أن تضطر لتناشد احدا ( بالاعتراف بابنها كشهيد !!) فكل المنَاشَدين أصغر من دم الشهداء .. و دموع أم شهيد أغلى من حبر قلم وزير .. و كرامتها أقدس من ان تنتظر لخمس سنوات
دون قلوب تسمع و عقول تعقل .
يجب أن نستحي .. و نكفر عن سوءات البيروقراطية السيئه.. فمعاش الشهيد لا يكلف مثل تكلفة نثرية اصغر مسؤول . و شظايا الرصاصة الساكنة في راس خالد أهم من أي شيء وكل شيء لانها تعني الكرامه للوطن.لولاها لما كان هناك وزير ولا وطن .. هذه رسالة من أم شهيد تبكي وطنها وابنها الشهيد ..
نائل ابو مروان كاتب وناشط سياسي