جاءت هبّة الأقصى لتذكّر العرب والعالم بفلسطين. فليل العرب الطويل الذي حوّل المشرق إلى أرض للمآسي، وأسس لزمن النكبات في سوريا والعراق واليمن وليبيا، حجب الجرح الأول في الجسم العربي، بعدما نجح الاستبداد والقوى الظلامية في تحويل العرب إلى شعوب من اللاجئين، جاعلَين من أرضهم جرحاً مفتوحاً لا يرتوي من دماء الضحايا.
هذه المرة فلتسمح لنا "أم سعد" بطلة رواية غسان كنفاني، "فخيمة عن خيمة" لا تفرق. الفدائيون غادروا خيامهم، ولم يبقَ سوى خيام اللاجئين أو أكواخهم المهدّمة، وصار البحر الأبيض مقبرة الهاربين من الجحيم.
في هذا الليل العربي والفلسطيني انفجرت هبّة الأقصى مشكّلة لحظة ضوء في العتمة، فالشعب الذي تُرك وحده في مواجهة مصيره، عرف كيف ينظّم صفوفه في مواجهة شعبية طويلة النفس أعلنت أن القدس لا تزال فلسطينية وعربية، وأن الاحتلال بكل جبروته وعنصريته، لم ينجح حتى الآن في تحويل القدس العربية إلى ضاحية إسرائيلية ملحقة بالقدس الغربية والمستعمرات الإسرائيلية.
لكن الانتصار النسبي في القدس يجب ألاّ يحجب الحقيقة. فإذا كانت القدس تحمل قيمة رمزية وثقافية عالية، فإن المعركة التي يفرضها الاحتلال على القدس ليست معركة رمزية، وإنما هي معركة شاملة واضحة الأهداف والوسائل. فلسطين تواجه فصلاً جديداً من نكبتها المستمرة منذ تسعة وستين عاماً، وهذا الفصل ربما يكون أقسى الفصول، لأن المشروع الإسرائيلي العنصري يتم وسط عجزَين كبيرين: عجز عربي وعجز فلسطيني. والجديد الذي يميّز هذين العجزين عن العجز الذي اختبره الشعب الفلسطيني في سنة 1948، هو الشعور العارم بأن العجز اليوم ليس عجز الأنظمة فقط، بل هو عجز الشعوب العربية أيضاً وهي تواجه التفكك الطائفي والغزوات الخارجية مجردة من رؤيا أو مشروع بديل، بعدما أنهكها الاستبداد واستبدت بها أصوليات تريد تحويل الخرافة إلى حاضر.
جاءت المحاولة الإسرائيلية لترويض الأقصى بالبوابات الإلكترونية كجزء من مسار إسرائيلي يستخدم سلاحَين متزامنين: القوة العسكرية والقوانين.
القوة العسكرية والقانون
القوة العسكرية الإسرائيلية فالتة من عقالها لأن الدولة الصهيونية تشعر بأن ميزان القوى العسكري والسياسي يميل إلى مصلحتها بشكل مطلق. القيادة الفتحاوية في رام الله مصرّة على مواصلة خوض معركة تأسيس الدولة الفلسطينية بالوسائل الدبلوماسية التي أثبتت عدم جدواها، والقيادة الحمساوية في غزة مشغولة بمناورات المحافظة على سلطتها. أمّا الأنظمة العربية فمنها مَن ينسّق مع إسرائيل حتى على المستوى العسكري، ومنها مَن ينتظر متابعاً خطابه "الممانع" في فراغ الكلام.
أمّا المستوى القانوني الذي يحكم ممارسات الدولة العبرية، فيشهد تطورات متسارعة على طريق مأسسة نظام التمييز العنصري. فالسلطة الإسرائيلية التي يقودها عتاة اليمين القومي والمستوطنون، تخوض معركتها من أجل السيطرة الكاملة على المجال السياسي الإسرائيلي على الطريقة الترامبية: هجوم على الإعلام والقضاء من جهة، وسنّ مجموعة من القوانين الجديدة من جهة أُخرى: قانون القدس الموحدة؛ قانون يهودية الدولة؛ قانون مصادرة الأراضي… وهذه القوانين تمس جميع المواطنين في فلسطين التاريخية، وليس سكان الضفة والقدس وغزة فقط، وإذا أضيف إليها قانون أملاك الغائبين والإصرار على منع عودة اللاجئين، تكون الدولة العبرية قد وصلت إلى المرحلة النهائية من هندسة النكبة على المستويات كافة.
الجواب البديهي صاغه غسان كنفاني في روايته "عائد إلى حيفا" حين قال سعيد س. لميريام الإسرائيلية التي استولت على بيته: "طبعاً نحن لم نجئ لنقول لك اخرجي من هنا، ذلك يحتاج إلى حرب…"
لكن الحرب ليست في الأفق المنظور. فحين نتكلم عن حرب، فإننا نتكلم عن حرب عربية ـ إسرائيلية، وجميع تجارب هذا النوع من الحروب باءت بالفشل، وقادت إلى ترسيخ المسار النكبوي؛ حتى حرب تشرين / أكتوبر التي كانت نصف انتصار أو نصف هزيمة، فإنها كانت فاتحة زمن الاستسلام العربي.
واليوم إذا نظرنا حولنا فلن نجد مَن يفكر في الحرب أو يتعامل معها بصفتها احتمالاً، فالأنظمة العربية مشغولة بتدمير بلاد العرب وتحطيم إرادة شعوبها من أجل إعادة هذه الشعوب إلى حظيرة الخنوع والتجانس، وفقاً لقاموس ما تبقّى من العسكريتاريا الملوثة بالمافيا.
إذاً ماذا؟
الجواب الفلسطيني عن هذا الانسداد التاريخي يبدو أخرس، فالكلام الذي يتكرر صار الوجه الآخر لبُكم السياسة وعُقمها، وما اللجوء إلى المحاور العربية والإقليمية إلاّ أحد أشكال الهرب من الحقيقة المريرة، فكل المحاور الإقليمية تقود إلى الفراغ، وهذا ما تعلمته الحركة الوطنية الفلسطينية خلال إعادة تأسيسها على يد الفدائيين، في أواسط ستينيات القرن الماضي، حين رفعت شعار القرار الوطني الفلسطيني المستقل.
كم يبدو زمن القرار المستقل، ومعه صورة الفلسطيني كفدائي، بعيدَين اليوم. فقد استُبدل الفدائيون برجال الأمن الوطني الذين تربّوا على يد دايتون، أو برجال ملثمين بالأسود يحكمون قطاع غزة وهو عبارة عن أكبر سجن في الهواء الطلق في العالم. وصار الرقص على حبال المحاور الإقليمية جزءاً من اللعبة السياسية الفلسطينية اليومية، في انتظار الوهم الذي هو الاسم الآخر للوهَن.
أمام هذا الانسداد السياسي الفلسطيني، تذهب سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى العربدة المطلقة. وهي عربدة مشتقة من القاموس الفاشي، ومن الإصرار على بناء نظام محكم من التمييز العنصري يتجلى في القوانين وفي الممارسات اليومية التي تتجاوز القوانين في كثير من الأحيان، وبذلك تكون الممارسات الاستيطانية دليل القانون ومرجعه.
القهر اليومي
في هذه اللعبة الإسرائيلية المزدوجة نستطيع التوقف عند عشرات الأحداث شبه اليومية التي لم تعد تثير انتباه أحد، من تهديم مدرسة جب الديب عشية بدء العام الدراسي، وتدمير منشآت استخدام الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء في القرية نفسها، إلى الشعارات التي صارت تُرفع بلا حياء في الشوارع كالشعار المرفوع باللغة العربية على الطريق السريع قرب مستعمرة حلميش في الضفة الغربية، والذي يقول: "هذه المنطقة هي تحت سيطرة اليهود. دخول العرب ممنوع ويشكل تهديداً لحياتك." أمّا التصريح الذي هدد به وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي تزاحي هنغبي الفلسطينيين بنكبة ثالثة قائلاً لهم لا تجربونا، فليس هذياناً، إنه جزء من منظومة سياسية وفكرية صهيونية راسخة، فالرجل يعرف كيف صَنعت إسرائيل التطهير العرقي، وهو يتكلم من موقع القرار والفعل، ويتصادى مع اقتراح وزير الدفاع الإسرائيلي ليبرمان بنزع الجنسية عن فلسطينيي وادي عارة وإلحاقهم بالسلطة الفلسطينية، وهو الاقتراح الذي تبنّاه نتنياهو مؤخراً. كأن سكان أم الفحم مهاجرون إلى وطنهم، وليسوا أصحاب الأرض والبلد. يهددون بنكبة ثالثة، كأن النكبة توقفت يوماً، وكأن حكام إسرائيل في حاجة إلى خدمات المؤرخ بني موريس الحائر بين ثلاثة تناقضات تؤرقه، فهو كان طليعة المؤرخين الجدد الذين كشفوا أن كثيرين من الفلسطينيين لم يغادروا وطنهم طوعاً في سنة 1948، قبل أن ينقلب على نفسه خلال الانتفاضة الثانية ويدعو إلى وضع الفلسطينيين في أقفاص، موجهاً اللوم إلى بن ـ غوريون لأنه لم يحتل الضفة وغزة في سنة 1948 وينجز عملية الطرد الكامل للشعب الفلسطيني، وها هو يعود معلقاً على كتاب المؤرخ الفلسطيني عادل منّاع "نكبة وبقاء" في صحيفة "هآرتس" (29 تموز / يوليو 2017)، محاولاً من جديد ترميم الضمير الإسرائيلي مكرراً نفيه لوجود النكبة، أو لوجود مخطط لطرد الفلسطينيين لدى القيادة الصهيونية.
بعد تصريحات هنغبي وليبرمان وبينت، والفخر الذي بدا على ملامح قادة اليمين العنصري وهم يراقبون المستوطنين الذين كانوا يطردون عائلة أبو رجب من منزلها في الخليل في 25 تموز / يوليو الماضي، وبعد جميع الممارسات الاستيطانية الوحشية التي لا تُحصى، فإن الضمير الإسرائيلي لم يعد في حاجة إلى عمليات تجميل على طريقة بني موريس، فالقناع المعتدل سقط نهائياً، وإسرائيل بدأت ترى نفسها في مرآتها الحقيقية التي تعكس صورتها القديمة ـ الجديدة.
سؤال الشعر في زمن الاحتلال
ولعل البرهان الأكثر وضوحاً على أن المشروع النكبوي المستمر لا يطاول الضفة والقدس وغزة وحدها، بل يستمر في مكانه الأول في فلسطين 1948، هو حكاية الشاعرة الفلسطينية دارين طاطور.
حكاية الشاعرة دارين (35 عاماً) التي ولدت في الرينة، مع الاعتقال والسجن والإقامة الجبرية والتحقيق، مثيرة وتدل على عمق الحماقة الإسرائيلية التي لم تعد تحتمل قصيدة تتضمن كلمة "شهيد". جلسة التحقيق تستحق أن تُدرَّس كنموذج للتوتر الإسرائيلي تجاه كلمات القاموس الأدبي الفلسطيني، وهو توتر يعود إلى الأعوام الأولى التي تلت حرب نكبة 1948، حين كان الحكم العسكري يسمح للاحتلال بوضع الشعراء في السجون، أو في قيد الإقامة الجبرية.
مع دارين طاطور اتخذ التحقيق شكلاً غرائبياً؛ فالشاعرة نشرت قصيدة في موقعها في "الفايسبوك" بعنوان "قاوم يا شعبي قاوم" في تشرين الثاني / نوفمبر 2015، ومنذ ذلك التاريخ وهي تتعرض للملاحقة. فبعد اعتقالها في سجنَي الشارون والدامون، وُضعت في الإقامة الجبرية المنزلية ومُنعت من استخدام الإنترنت، وهي تتعرض لمختلف الأشكال من الضغط المعنوي من أجل حملها على الاعتراف بأنها ليست شاعرة!
قاوم يا شعبي قاومهم
قاوم سطو المستوطن
واتبع قافلة الشهداء
لم يقرأ المحقق الإسرائيلي النص بصفته قصيدة، إذ كيف له أن يميز بين الموقف التحريضي وبين الشعر، وقرأ كلمة شهيد بصيغتها العبرية التي تعني الانتحاري، ووجّه إلى دارين ثلاث تهم: التحريض ضد الدولة، والمشاركة في تظاهرة كفر قاسم حيث قرأت القصيدة، ودعم حركة الجهاد الإسلامي.
الذي استوقفني لم يكن القصيدة بذاتها، فهي قصيدة متواضعة على المستويين الفني والشعري، وإنما الهوس الإسرائيلي الذي وصل إلى حدود لم يستطع المسرح العبثي الوصول إليها في تجلياته الأدبية المتنوعة. وقد نشر الكاتب الإسرائيلي يهودا شنهاف في صحيفة "هآرتس" (8 آب / أغسطس 2017) مقالة ممتازة حلل فيها وقائع التحقيق الإسرائيلي، إذ إن النائب العام الإسرائيلية حاولت طوال سبع ساعات حل لغز الشعر وتحديد مَن هو الشاعر، وفرض فهمها للترجمة من العربية إلى العبرية.
روى شنهاف مقاطع من جلستَي تحقيق جرت الأولى مع البروفسور نيسين كالديرون الذي يدرّس الشعر العبري، والثانية مع الدكتور يوناثان مندل وهو مترجم للأدب من العربية إلى العبرية.
مع كالديرون كانت المسألة التي تحتاج إلى حل هي الجواب عن سؤال ما هو الشعر، وعندما أجاب الرجل بأن المتهمة شاعرة، وبأنه لا وجود لسلطة تحدد ما هو الشعر، وقال إن نص دارين يُعتبر شعراً لأنه مكتوب بأسطر قصيرة تحمل إيقاعاً، أُسقط في يد النائب العام فقالت: "إذا قمت بكتابة ثمانية أسطر وبعد كل سطرين يتكرر سطران، فهل هذا شعر؟" وعندما أُجيبت بنعم، وبأن الشعر هو ما يحدده الشاعر، لجأت إلى البحث عن معاني الكلمات في نص طاطور، وخصوصاً معنى كلمة شهيد، فاستدعت الدكتور ماندل إلى تقديم شهادته.
لو كان إميل حبيبي حياً لحوّل التحقيق بشأن كلمة شهيد إلى أكثر فصول روايته "المتشائل" سخرية. ففي هذا السياق لا حاجة إلى خيال الكاتب من أجل صوغ نص عبثي فكاهي يدل على تنعّم المحتل بحماقته.
عندما وصلت النائب العام إلى لبّ المسألة ـ أي إلى التحقيق بشأن معنى كلمة شهيد بالعبرية، ووُجهت بأجوبة المترجم ـ أصيبت بالصدمة، ورفضت أن تصدق أن الكلمة الواحدة يمكن أن يكون لها مستويات متعددة من المعاني.
والحقيقة أني لا أعلم كيف دخلت كلمة شهيد القاموس العبري بمعنى الانتحاري. أعرف أن كلمة "مخابيل" العبرية التي تعني "المخرب" استُخدمت للدلالة على الفدائي، أمّا أن يتحول الشهيد إلى انتحاري، ويصاب الإسرائيليون بالهلع من ديوان محمود درويش "حالة حصار" الذي يتحدث في إحدى قصائده عن الشهيد، فتلك مسألة تحتاج إلى محلل نفسي.
بدأت شهادة المترجم بتحقيق عن موقفه السياسي من الاحتلال ومقاومته، وطبعاً انزعجت النائب العام من قول يوناثان مندل أنه يؤيد المقاومة غير العنفية للاحتلال، وحين وصل الاستجواب إلى الموضوع، أشار المترجم إلى أن كلمة شهيد بالعربية تعني "الضحايا الذين سقطوا"، فعلقت النائب العام بأن ترجمتها العبرية تبدو كأنها دعوة إلى العنف…
وإلى آخره…
سلاح القانون
يبدو أن على الدولة العبرية صوغ قوانين جديدة بشأن الترجمة وبشأن تحديد مَن هو الشاعر، ويدل التحقيق مع دارين طاطور على أن الدولة العبرية باتت على مشارف وضع قوانين خاصة تسري على الشعر المكتوب باللغة العربية في دولة التمييز العنصري اليهودية.
المسألة القانونية تتخذ شكلاً مختلفاً وأكثر جدية من مسخرة التحقيق مع طاطور، وإسرائيل هنا تذهب إلى مناطق قانونية جديدة تكرسها كدولة يهودية لا ديمقراطية.
خلال النقاش الذي صاحب بدايات الثورة الإيرانية فيما يتعلق بالاسم الجديد الذي ستعتمده طهران، انقسم الرأي إلى وجهتَي نظر: الأولى تبنّاها تلامذة علي شريعتي ودعت إلى تبنّي اسم الدولة الإسلامية الديمقراطية، والثانية تبنّاها الملالي وهي الدولة الإسلامية. وقد حسم الخميني النقاش عبر تبنّيه الاسم الثاني، لأن لا معنى لوضع كلمة ديمقراطية أمام الصفة الإسلامية للدولة.
لا يوجد في إسرائيل مَن يمتلك حكمة الخميني، لذا تأتي خزعبلات المزج بين يهودية الدولة وديمقراطيتها، وفي هذا السياق يتم صوغ ثلاثة مشاريع قوانين إسرائيلية تُحكم الطوق على فلسطين بشكل كامل، وتشكل الأرضية القانونية اللازمة للانتقال الصريح إلى قوانين التمييز العنصري:
القانون الأول هو قانون أساس يحمل عنوان "قانون القومية"، وفيه أن دولة إسرائيل هي البيت القومي للشعب اليهودي، وأن حق تقرير المصير في دولة إسرائيل يقتصر على الشعب اليهودي، ويلغي مكانة العربية كلغة رسمية.
القانون الثاني هو قانون "القدس الموحدة"، معلناً أن القدس هي "العاصمة الأبدية للشعب اليهودي ودولة إسرائيل، ولا يمكن لأي جسم أن يتخلى عن القدس عاصمة لإسرائيل إلاّ بأغلبية ثمانين صوتاً في الكنيست الإسرائيلي." القانون الثالث هو قانون مصادرة الأراضي، وهو قانون يسمح لإسرائيل بمصادرة أراضي الفلسطينيين الخاصة حيث المستعمرات أو البؤر الاستيطانية. وبذا يُسمح للمستوطنين بالبقاء حيث هم، ويُحجَب عن الفلسطينيين الأفراد، أصحاب هذه الأرض، حق المطالبة بها إلاّ بعد التوصل إلى حل دبلوماسي لوضع المناطق المحتلة. وعندما قدّم الفلسطينيون التماساً إلى المحكمة العليا من أجل نقض هذا القانون، عيّنت الدولة المحامي هارول أرنون للدفاع عن قانونها، فأعلن أن المستوطنين في محنة: "إنهم يعيشون في واقع مضطرب هو كناية عن مشكلة قومية تمزق المجتمع." المحامي يشفق على اللص لأنه لا يريد أن يرى الضحية، هذه هي اللعبة القانونية التي تلجأ إليها إسرائيل من أجل شرعنة الاستيطان والضم. في 24 كانون الأول / ديسمبر 2016 بثّت إحدى قنوات التلفزيون الإسرائيلي فيديو لأحد الأعراس حضرته مجموعة من "شبيبة التلال". تحوّل العرس إلى احتفال بالقتل، إذ شوهد الشبان يرقصون بضفائرهم المتطايرة في الهواء، وأحدهم يُمسك بسكين علق عليها صورة الطفل الرضيع علي دوابشة الذي قضى احتراقاً بنار أشعلها المستوطنون في منزل ذويه في قرية دوما، وذهب ضحيتها كذلك والده سعد ووالدته ريهام، ولم ينجُ سوى شقيقه أحمد البالغ من العمر أربعة أعوام.
على هؤلاء القتلة يشعر المحامي الإسرائيلي بالأسى، ومن أجلهم تسنّ الدولة العبرية قوانينها، وبحثاً عن اطمئنانهم النفسي تخنق المدن والقرى وتريد الاستيلاء على المسجد الأقصى.
زمن الاشتباك
في هذه الدوامة من القهر المتواصل انفجرت هبّة الأقصى في القدس. كانت الحكومة الإسرائيلية واثقة بقدرتها على فرض أمر واقع جديد، ولم تتوقع انفجاراً شعبياً فلسطينياً في مناخات الإحباط السائدة. لكن الهبّة فاجأت نفسها، واستطاع المقدسيون أن يصنعوا، بحسب مقالة مهند مصطفى المنشورة في هذا العدد، ميدان تحريرهم في القدس.
لا أريد الدخول في تحليل هبّة الأقصى، لكنني أريد الإشارة إلى حقيقتين:
الأولى هي أن الإرادة الشعبية تستطيع تحقيق المعجزة. والمعجزة في فلسطين اليوم بسيطة على الرغم من صعوباتها؛ إنها المقاومة التي تستعيد روحها حين تعود ملكاً لأصحابها، وتتحرر من كابوس التسلط الفئوي الذي فصل فلسطين عن اسمها.
الثانية هي أن القرار الفلسطيني لا يكون إلاّ مستقلاً، وأن الشعب يستطيع أن يضيء هذا الليل العربي المتمادي في لحظة واحدة أَطلق عليها الشهيد باسل الأعرج اسم لحظة الاشتباك.
الاشتباك الفلسطيني مع المحتل على جميع المستويات ممكن وضروري؛ ممكن بالوحدة الوطنية التي يصوغها الناس وفقاً لضرورات البقاء، وضروري لأن ما يُعِدّ له الإسرائيليون هو مزيج من التطهير العرقي والتمييز العنصري.
المقاومة ليست خياراً، وإنما ضرورة من أجل الصمود في الأرض ومنع استباحتها.
افتتاحية العدد الجديد من مجلة الدراسات الفلسطينية خريف 2017 الذي يصدر في 21 ايلول/سبتمبر الجاري وينشر بالاتفاق مع هيئة تحرير المجلة/ القدس العربي
رئيس تحرير مجلة الدراسات الفلسطينية
الياس خوري