الشيء الوحيد المشترك بين قطاع غزة وسنغافورة هو أن الأخيرة طلت بوجهها الجميل في أحلام سكان القطاع بعد التوقيع على اتفاق اوسلو، يومها جيء بسنغافورة دون غيرها من الدول على اعتبار أنها محط إعجاب الجميع، وأنها الأقدر على دغدغة عواطف سكان القطاع بما تملكه من مقدرات تستنفر بها أحلام اليقظة لديهم وتبقيهم أقرب إلى الخيال منه للواقع المتشابك بخيوط الاحتلال، يومها لم نكن بعد قد تعرفنا على عالم الانترنت ومنتجاته، كانت المعلومات الشحيحة عنه تضعنا في عالم من الخيال يدفعنا لاقتفاء أثر حلم سنغافورة، تلك الدولة الصغيرة التي باتت تحتل المراكز الأولى بين دول العالم في العديد من المجالات، دولة بعد أن قرر البرلمان الماليزي طردها تحولت فيها أحلام اليقظة لمجتمع فقير إلى واقع يبهر من يراه.
لعل الواقع كان يحتم علينا أن نكون متواضعين حتى في أحلامنا، وألا نقع فريسة لأوهام لا تلبث أن تكشف عورتنا وتميط اللثام عن عجزنا، بعد ربع قرن من الاحتفال البهيج الذي شهدته حديقة البيت الأبيض والمصافحة التاريخية يجد المواطن الفلسطيني نفسه في دوامة تكاد تطبق عليه، فهل تتحمل اوسلو دون سواها المسؤولية عما وصلنا إليه، أم أننا حملناها ما لا تطيقه ونحن نعلم أن نصوصها أثقلت كاهلها وجعلتها تترنح عند كل كلمة وفاصلة، أم أننا وجدنا فيها ما يمكن أن نعلق عليه فشلنا تارة وعجزنا تارة أخرى ونصب جام غضبنا عليها عند كل شاردة وواردة، هل كان علينا أن نواريها التراب منذ سيرتها الأولى ونحرر لها شهادة الوفاة، وهل باستطاعتنا اليوم أن نفعل ذلك ونعود أدراجنا لما كنا عليه قبل أن تحط رحالها في ديارنا.
أكثر ما يميزنا عن غيرنا أننا نعشق الخطابة التي تشبع عواطفنا، نطرب لسماع الجمل ذات الايقاع العالي حتى وإن كانت لا تلامس الواقع، ننعت اوسلو ونصفها بأبشع الصور ونحملها دون سواها المسؤولية الكاملة عن الوضع المأساوي الذي وصلنا اليه وفي ذات الوقت نهرول وراء المكتسبات التي جاءت بها، كأن أوسلو هي التي جعلت من الشعب الفلسطيني فسطاطين متناسين أننا ذهبنا في هذا الاتجاه قبل اوسلو وتحديدا منذ بداية الانتفاضة الأولى.
مؤكد أن اوسلو لها ما لها وعليها ما عليها، والمؤيد لها قبل المعارض كان يدرك أنها أشبه ما تكون بالمشي على حبل ممتد بين الثورة والدولة يتطلب منا الكثير من التوازن، صحيح أنها سارت بترنح منذ خطواتها الاولى ولكن المؤكد أيضا انها بدأت ترسم ملامح الدولة، جواز سفر عوضا عن وثيقة اللاجئين الفلسطينيين الصادرة عن هذه الدولة العربية أو تلك، وانتخابات رئاسية وتشريعية بمدلولاتها السياسية، ومطار تحط بها طائرات القادة القادمين لزيارة الدولة الوليدة، وتعزز معها اعتراف المزيد من دول العالم بالدولة الفلسطينية التي تم الاعلان عن قيامها في الجزائر عام 1988.
كان الجميع يدرك حجم التسويف والمماطلة التي تنتهجه حكومة الاحتلال، وأن الصراع داخل المجتمع الاسرائيلي بين المؤيد والمعارض لها آخذ بالاتساع، وأن الرصاصة التي اغتالت رابين ستأتي باليمين المتطرف الرافض لاتفاق اوسلو إلى سدة الحكم، وأن خطة شارون القاضية بالانسحاب من قطاع غزة دون التنسيق مع السلطة الفلسطينية لم تكن سوى مقدمة لدفعنا إلى المكان الذي يرغب اليمين الاسرائيلي أن نتواجد فيه، وأننا فشلنا بجدارة في خلق نموذج نقنع به العالم، إلى أن وصلنا إلى واقع دخلت معه اتفاقية اوسلو مرحلة الموت السريري، وبتنا في حالة من التخبط بين الاعلان عن وفاتها، وما يترتب على ذلك من جهة وما علينا أن نفعله بعد ذلك من جهة أخرى، وبين الانتظار على أمل أن تتدخل الادارة الأمريكية لتعيد لها الحياة من جديد، وفي ظل ذلك لم يعد حلم سنغافورة يطل علينا لا في يقظتنا ولا حتى في نومنا.
بقلم/ د. أسامه الفرا