من الطبيعي أن يجد اتفاق أوسلو نفسه عاريا في ذكراه الرابعة والعشرين، بعد أن سقطت ورقة التوت الأخيرة، نتاج سلوك الحكومة اليمينية الحالية في إسرائيل، وإعلانها بشكل علني، ومباشر، أن لا دولة للفلسطينيين، ولا اعتراف بحقوقهم، وفي ظل إدارة أمريكية، يقودها مجموعة من الصهاينة، ترفض من حيث المبدأ الالتزام بحل الدولتين، هذا عدا عن الأوضاع الداخلية والعربية، والإقليمية، والعالمية التي تسير رياحها جميعا، بعكس مسار سفينة الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني.
كان من الأجدر أن يخضع اتفاق أوسلو للدراسة، والتحليل، والتقييم، والنقد، والمراجعة المستمرة، قبل الإقدام عليه، إلا أن ما حدث أننا أخضعنا الوطن لعملية جراحية معقدة، ثم اكتشفنا بعد أن دخلنا غرفة العمليات، أننا نفتقر لأطباء مهرة، وأدوات جراحة أساسية، وأن كمية الدم المتاحة للمريض غير كافية لإنقاذ حياته، وأن معظمه من فئات لا توائم المريض، وأن المستشفى لا يخضع لأدنى متطلبات السلامة، ناسين، أو متناسين، أن المريض تحت مباضع الجراحين، بحاجة إلى اطباء متخصصين، لا خطباء، أو منظرين، كونه غائب عن الوعي أصلا، بالإضافة إلى أنه من سخرية القدر أن العديد ممن هاجموا الاتفاق وليدا، وعملوا جاهدين لإفشاله، تحت شعار أنه تفريط، وخيانة، وتنازل، وتواطىء ، يتمسكون به اليوم جثة هامدة ، ويرتكزون إلى نصوصه، من اجل الحفاظ على مكاسبهم الشخصية، وسطوتهم المجتمعية، كما هو حال حركة حماس في قطاع غزة، التي دخلت النظام السياسي الفلسطيني من بوابة أوسلو الواسعة، فيما أن منظريه، وقادته، وصنّاعه الحقيقيين، لا ينفكون عن استثمار كل فرصة للتحرر منه، وإعلان وفاته، والتنصل من المسؤولية عن ماَلاته، وعواقبه دون قيام أي من الفريقين، باستعراض جدي، وعملي للبدائل والخيارات المتاحة.
تعرض اتفاق أوسلو لعملية تشريح واسعة، من مختلف النشطاء، والسياسيين، والمحللين والمهتمين بالشأن العام ،من مختلف المشارب السياسية، والفكرية، وذلك لسبر أغواره، واستعراض مناقبه، ومثالبه، إذ أمتلك كل من أنصاره، وخصومه من المبررات، والأدلة، والحقائق، التي حافظت على ديمومة الجدل بشأنه في المجتمع الفلسطيني خلال السنوات الأربعة والعشرين الماضية، إلا أن القضية التي لم تناقش بذات الزخم، هو الثمن الاجتماعي لاتفاقية أوسلو، على الصعيد الوطني، وهو الأمر الذي يرى الكاتب أنه لا يقل أهمية، عن المالات السياسية، والاقتصادية له .
- أوسلو وإعادة رسم خارطة القوى المجتمعية :
لقد ساهمت اتفاقية أوسلو بشكل دراماتيكي في إعادة تفكيك، وبناء خارطة القوى، داخل المجتمع الفلسطيني من جديد، إذ مكنت اتفاقية أوسلو ما يزيد عن المئتي ألف فلسطيني من العودة للضفة الغربية، وقطاع غزة، من بينهم القيادة الفلسطينية في المنافي، التي تقلدت دفة القيادة في النظام السياسي الجديد، وهو الأمر الذي ساهم في تراجع دور القيادات المحلية، في المدن والقرى والمخيمات، التي كانت خلال العقود الماضية، تشكل القيادة الميدانية المحلية، التي توجه وتقود المجتمعات المحلية الفلسطينية، ولا سيما قطاع الشبيبة الذي كان يمتد في القرى والمدن والمخيمات، ويقود عملية المقاومة والعصيان ضد الاحتلال، وإدارة الحياة اليومية للمواطنين، في ذات الوقت، إذ أن تلك القطاعات العريضة- باستثناء بعض الحالات المحلية الفردية، التي استطاعت النفوذ نحو مواقع قيادية في النظام السياسي الجديد، فقد دورها القيادي في المجتمع، لصالح القيادة الفلسطينية الجديدة، التي استحوذت على القرار العام، وتقلدت معظم المواقع القيادية في مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية، من وزارات، وقيادة أمنية، ومحافظين، ومرشحي الانتخابات التشريعية، وكذلك السفراء، وغيرها من المواقع القيادية في المجتمع، بينما تقلد قادة الانتفاضة الشعبية، والقيادات الطلابية، والمحلية في النظام الجديد، مواقع تنفيذية، وإدارية، وسطى، لا ترتقي إلى مستوى التأثير المباشر في توجيه، وصناعة القرار العام، وهو الأمر الذي ساهم بشكل عام في تراجع الحيوية والديناميكية التي كانت تصنعها تلك القوى في مجتمعاتها المحلية، كونها كانت تمتلك شرعية القبول الجماهيري، والتواصل اليومي مع المواطنين، التي هي بالأساس جزء منها، وأنتجت اختلالا وتراجعا في دور القوى الأهلية، التي كان لها دورا فاعلا وأساسيا في قيادة وتوجيه الانتفاضة الشعبية عام 1987، قبل عسكرتها، وانزلاقها في العديد من السلبيات، التي كان لها ثمنا باهظا على القضية الفلسطينية، بما في ذلك الكتّاب، والمثقفين، والمؤسسات التعليمية، والحركة النسوية، والحركة الطلابية، والبلديات، والنقابات المختلفة.
على الرغم من أن عقدين ونصف، كانا كافيين، لخلق تغيير داخل القيادة الفلسطينية، أتاحت مساحة أوسع للقيادات المحلية السابقة، للمشاركة في صناعة القرار الفلسطيني، وتقلد مواقع قيادية في السلطة الوطنية الفلسطينية، كما هو الحال اليوم في المحافظات، والأجهزة الأمنية الفلسطينية، والوزارات، التي تقاد من خلال القيادات المحلية التي شكلت في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، القيادة الميدانية للانتفاضة، إلا أن ذلك هو نتاج تقدم القيادة السابقة بالعمر، وتقاعد أو رحيل عدد كبير من رموزها، وليس نتاج رؤية وطنية شاملة، تقوم على تعاقب الأجيال وتكامل التجارب، ولعل نموذج المجلس الوطني الفلسطيني، الذي لا زال مغلقا أمام الشباب، على سبيل المثال، أحد الدلائل على ذلك .
- تراجع دور الطبقة الوسطى في المجتمع
لقد ساهمت اتفاقية أوسلو في جلب عشرات، إن لم يكن مئات الآلاف من فرص العمل للفلسطينيين، في مختلف مؤسسات، ووزارات السلطة الوطنية الفلسطينية، أو في مؤسسات القطاع الخاص الذي انتعش نتيجة الاتفاق الجديد، إلا أنها ساهمت في ذات الإطار، بتراجع دور الطبقة الوسطى في المجتمع الفلسطيني، وظهور طبقة رأسمالية، عابرة للحدود والقارات، وهو الأمر الذي قاد نحو عدد من النتائج الاقتصادية والاجتماعية السلبية، لا سيما هجرة الأرض الزراعية، لصالح العمل في قطاع الخدمات الاستهلاكية، وهو الأمر الذي ساهم بشكل أو بآخر، بتوسع رقعة المستعمرات في الأراضي الفلسطينية، كما أن تبني نظام اقتصادي ليبرالي، قائما على مبدأ " دعه يعبر، دعه يمر" ، قد ساهم في إغلاق المئات من الصناعات المحلية، وانتقال الآلاف من الصنّاع، والحرفيين، وأصحاب المشاريع المتوسطة إلى صفوف العاطلين عن العمل، والباحثين عن فرص لسد الرمق من المستعمرات، أو سوق الاحتلال، هذا بالإضافة إلى أن ماَلات الانقلاب في قطاع غزة، قد ساهم في ظهور طبقة رأسمالية من نوع آخر في قطاع غزة، تتغذى على تجارة الأنفاق، والمخدرات، ووجع الناس، واحتياجهم للخدمات الأساسية من ماء، وطعام، وعلاج، حتى لو كان ذلك على حساب أغلبية مسحوقة من المواطنين.
إن تقلص هوامش الطبقة الوسطى في أي مجتمع من المجتمعات، له آثاره الخطيرة للغاية، كون تلك الطبقة، هي القادرة على الحفاظ على توازن المجتمع، وسلمه الأهلي، وتماسك نسيجه المجتمعي، وبالتالي فإن أي اختلال بها لصالح الطبقات الثرية، أو الفقيرة للغاية، إنما هو ناقوس خطر، يستدعي وضع خطط حقيقية تتخطى حدود الابتهالات الصادقة في المساجد، أو الخطابات الرنانة في المهرجانات .
- تراكم التشظي المجتمعي بشكل حاد
على الرغم من أن أحد أبرز سمات التاريخ المعاصر للحركة الوطنية الفلسطينية، هو التفسخ والانقسام، بدءا من فترة الانتداب البريطاني، وانقسام المجتمع الفلسطيني، بين المعارضة والموالاة، أو بين "الحسينيين"، و"النشاشيبيين" واستمرار الاحتراب حتى بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، ورفض حركة الإخوان المسلمين، وذراعها الفلسطيني حركة حماس الانضواء في إطارها، أو في إطار القيادة الوطنية الموحدة، إبان الانتفاضة الشعبية عام 1987، إلا أن اتفاق أوسلو، الذي جاء نتيجة عدد من الظروف الاستثنائية، باعتراف القائمين عليه، قد ساهم بشكل حاد في تشظي النسيج المجتمعي الفلسطيني، من خلال استخدام منظري الاتفاق، وخصومه، وأعداءه، مختلف الوسائل لإثبات صوابية رؤيتهم، وخطأ الخصوم، بما في ذلك تحويل منابر المساجد، إلى ساحات للتأطير الحزبي، والاستخدام السياسي للدين، أو من خلال إشراع سلاح التاريخ النضالي، والشعارات النضالية والوطنية، لشيطنة المعارضين له، وهو الأمر الذي خلق انقسام حاد، داخل المجتمع الفلسطيني، يختلف من حيث ماَلالته، لذاك الذي ساد خلال فترة الإنتداب البريطاني على فلسطين، وهو أحد الأسباب التي ساهمت بشكل حاد، في استسهال استباحة الدم الفلسطيني، وتعميق الانقسام، الذي أخذ منحى أفقي وعمودي في ذات الوقت.
ما شهدنا مؤخرا من إقدام حركة حماس على الغاء اللجنة الإدارية، وعن نية حكومة الوفاق الوطني، مباشرة صلاحياتها الدستورية في قطاع غزة يقتضي من الكل الفلسطيني، بالإضافة إلى الإشادة، والتفاؤل الحذر، والإسناد، والدعم، الوقوف الجدي، من أجل دراسة، وتقييم، وتحليل المرحلة السابقة بكل مالاتها، بمشاركة الكل الفلسطيني، بما في ذلك ترميم الثغرات الاجتماعية التي اعترت القضية الفلسطينية، وأثرت في المجتمع الفلسطيني والمواطن بشكل مباشر، كون الوطن هو المواطن، والأرض، والنظام الذي يتعاقد المواطنون على القبول الجمعي به، قبل أن يكون حجار، وقوانين، وأنظمة .
بقلم : رائد محمد الدبعي