كعادته، وكما كثير من خطاباته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لم يخل خطابه الأخير من أسلوبه البكائي الشكاء إذ يقول:" أربعة وعشرون عاماً مضت على توقيع اتفاق أوسلو الذي حدد إنهاء الاحتلال الإسرائيلي بعد خمس سنوات، ومنح الفلسطينيين الأمل في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فأين نحن اليوم من هذا الأمل؟
وعلى طريقة "رضينا في الهم والهم ما رضي فينا"، قال- الرئيس - عباس شاكياً:"لقد اعترفنا بدولة إسرائيل على حدود العام 1967، لكن استمرار رفض الحكومة الإسرائيلية الاعتراف بهذه الحدود يجعل من الاعتراف المتبادل بيننا وبينهم الذي وقعناه في أوسلو 1993 موضع تساؤل". فالرئيس عباس – على الرغم من منتهى الاستخفاف الإسرائيلي به وبشعبه - ما زال يشكو بخجل متناه فيقول:" لكن استمرار رفض الحكومة الإسرائيلية الاعتراف بهذه الحدود يجعل من الاعتراف المتبادل بيننا وبينهم الذي وقعناه في أوسلو 1993 موضع تساؤل"، فيما كان الأجدر به أن يقول، و بقوة متناهية: "إن الاعتراف المتبادل أصبح الآن في مهب الريح، إذ إنه بين غمضة عين وانتباهتها قد يصبح شيئاً من الماضي."
إن مما يثير العجب والاشمئزاز أن الرئيس يحاول مرة أخرى استجداء تسويق مبادرة السلام العربية التي سبق له أن بذل لأجلها جهداً تسويقياً لا يوصف، ولكن دون جدوى، وإن مما يثير العجب والنفور والتقزز أيضاً أن يقول الرئيس في خطابه:" عرضنا على رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يؤكد التزامه بحل الدولتين، وأن يجلس معنا إلى الطاولة لنرسم الحدود بين إسرائيل ودولة فلسطينية، لكي نفتح المجال أمام مفاوضات جادة تعالج بقية قضايا الوضع الدائم، وللأسف فإنه يرفض مثل هذا العرض".
في كل حال، فإن خطاب عباس البكائي الاستجدائي العاطفي المليء بالشكوى ليس فيه أي جديد، إلا أنه يكرر ما سبق أن قاله ويؤكد على ما سبق له أن أكده حيث جعل المقاومة إرهاباً، دون أن يضع حدوداً تكفلها الشرعية الدولية التي ذهبت – بكل وضوح وصراحة - إلى أن مقاومة الاحتلال عمل واجب ومشروع، فيما الإرهاب عمل محرم ومجرم ومدان وغير مشروع.
وإذ يقر الرئيس في خطابه بفشل التسوية وفشل المفاوضات، فإننا نراه – مع أبلغ الأسف وأشده - يواصل استجداء التفاوض! وحيث يقر بأن "إسرائيل لم تلتزم بأوسلو، وتتنكر لحل الدولتين، وتصر على إفشال عملية السلام بمواصلة الاستيطان حتى أنه لم يبق للدولة الفلسطينية مكان"، فإنه لا يقول بعد كل هذا شيئاً سوى أن هذا "غير مقبول عندنا وعند المجتمع الدولي" الذي يعرف هو أكثر من غيره أنه لا يحرك ساكناً. غريب وعجيب أمر هذا
الرئيس الذي يعترف بالفشل دون أن يعبر عما سيفعل للتغلب على هذا الفشل أو لسلوك درب آخر أقله ألا يعود إلى استجداء التفاوض. فضلاً عما سبق، فإن تكرار الرئيس عبارة "قلت لكم في العام الماضي" أو ما يشابهها، أكثر من مرة، ليس إلا دليلا ً على ثقته وقناعته أنه لا شيء يمكن أن يتحقق. ليس هذا إلا من البكائيات التي لا تحسب له وإنما عليه، بصفته رئيساً لشعب تحت الاحتلال .
إن كل الكلام الذي قاله عباس في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لا يوجد أحد ممن كانوا في القاعة لا يعرفه. وعليه، فإنه ليس مطلوباً منه أن يقول للذين يشاهدونه ويسمعونه ما يعرفون، وإنما المطلوب منه أن يقول لهم ما لم يسمعوه وما لم يعرفوه من قبل. المطلوب منه أن يقول مالا يتوقعونه كي يفهم العالم أن الكيل قد طفح وأن الصبر قد نفذ، تمهيداً لتساؤلهم:" ماذا هو فاعل بعد كل هذا؟!"
إن من نقاط ضعف عباس التي لا تكسبه احتراماً - كما يظن هو ومن يصفقون له - أنه يؤكد أكثر من مرة، ودون مسوغ، على عدم اللجوء في أي حال من الأحول إلى المقاومة التي استخدم مرادفاً لها كلمتي الإرهاب والعنف لاسترجاع الحق المغتصب، فضلاً عن ذلك فإن قوله:" تجفيف مستنقع الإرهاب... سيكون له عظيم الأثر في محاربة ظاهرة الإرهاب وحرمان التنظيمات الإرهابية من الأوراق التي تستغلها لتسويق أفكارها الظلامية... نحن الفلسطينيين ضد الإرهاب المحلي والإقليمي والدولي"، لم يكن كسباً له، وإنما كان حجة عليه. يضاف إلى هذا الضعف ضعف آخر، وهو أنه لم يعط أفكاراً أو اقتراحات حول قضايا لا بد من الوضوح والمباشرة فيها، مكتفياً فقط بطرح تساؤلات حولها، كأن يقول:
- أين نحن اليوم من هذا الأمل؟
- إذن، من الذي يحرض؟
- أين هي هذه المبادرات؟ ولما لا تقبل بها إسرائيل؟
- أين نذهب، إذن؟
- هل سلم المجتمع الدولي بأن إسرائيل هي دولة فوق القانون؟ ولماذا التعامل مع الدول بمعايير مزدوجة؟
- أين هي حدود دولة إسرائيل التي اعترفتم وتعترفون بها؟ وكيف يمكن الاعتراف بدولة ليس لها حدود؟
وفوق كل ما سبق، فهو يوجه السؤال:" أين نذهب، إذن؟ ليجيب عنه، قائلاً:" لن نذهب للإرهاب والعنف"، ما يعني أنه لن يذهب للمقاومة، ولكنه سيذهب – كما حاله طوال ربع قرن مضى – إلى "المفاوضة" التي هي "المساومة"!!!
أما آخر الكلام: فماذا كان سيكون لو قال عباس في خطابه:"طالما أن القانون الدولي الذي احترمناه والتزمنا به - وما نزال - لم ينتصر لحقنا المسلوب، ولم يحاسب إسرائيل حتى اللحظة على اعتداءاتها المتكررة علينا، ولم يحاسبها على استيطانها في أرضنا واعتداءاتها على قدسنا، وطالما أن القانون الدولي يؤيد الواقع تحت الاحتلال في كفاحه ومقاومته لنيل حريته واستقلاله، فإنني أقول لكم بكل جدية وكل مسؤولية:"لم يبق أمامنا كشعب يعاني تحت الاحتلال الإسرائيلي إلا أن نقاوم ونقاوم ونقاوم بكل ما نملك من أدوات المقاومة إلى أن نطرد هذا الاحتلال من
بلادنا. أما أنا، فبصفتي رئيساً لهذا الشعب المحتل، لم يبق أمامي إلا أن أنحاز لشعبي فأقول له: حيَّ على الجهاد، هيا إلى المقاومة"
بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جامعة الأزهر بغزة
رئيس "جمعية أساتذة الجامعات – فلسطين"