قرر المؤتمر الصهيوني المنعقد في بازل في سويسرا إقامة دولة لليهود في فلسطين قبل 120 سنة ولتطبيق المقرر كان يجب أن تزال كثير من العقبات من أمام المشروع الصهيوني الذي تبلور في ذلك المؤتمر وأفصح بوضوح عن ماهيته وهدفه، وكتب ثيودور هرتزل في يومياته بأنه بعد خمس سنين ربما، وبالتأكيد خلال خمسين سنة سيصبح هذا حقيقة...وفعلا هذا ما حصل بعد نصف قرن حيث كان المهاجرون اليهود قد أنشأوا مؤسسات دولة كاملة عسكرية واقتصادية وغيرها ولم يتبق إلا الإعلان عن قيام دولتهم بعد سنة(عقد مؤتمر بازل في 1897م وأعلن بن غوريون قيام دولة إسرائيل في 1948م).
يجب ألا ننسى وكي أقلل قدر الإمكان من الاستطراد التاريخي أن فكرة الصهيونية كانت برعاية ودعم غربي كامل، في جميع مراحلها وحتى اللحظة، فإذا كنا نتحدث عن بازل فهي مدينة سويسرية، وإذا تحدثنا عن وعد بلفور وصك الانتداب فهي جرائم بريطانية، وإذا تحدثنا عن الاستقواء والدعم العسكري والسياسي والاقتصادي لإسرائيل منذ عقود فنحن نتحدث عن خطايا أمريكية، وإذا تحدثنا عن البرنامج النووي الإسرائيلي ففرنسا هي أمه...وإذا أوصلنا النقاش والتفكير إلى منتهاه سنقول بصراحة:إسرائيل هي مشروع كولونيالي غربي، يمثل امتدادا تاريخيا للحملات الصليبية على بلادنا، بأداوت وفكر مختلف.
لقد تطلبت مراحل تمكين المشروع الصهيوني في فلسطين خططا وصراعات وحروبا ووقتا ليس بالقصير؛ فتم إدخال السلطنة العثمانية في حرب كونية أخرجت بلاد الشام والعراق(الهلال الخصيب) من تحت رايتها، ثم تم تفكيك السلطنة بما تمثله من رمزية للأمة لاحقا، ثم استعمارا بريطانيا سهل هجرة اليهود إلى فلسطين، وتمكينهم من حيازة السلاح المتطور والتدريب الاحترافي، فيما كان العربي الفلسطيني عرضة للقتل شنقا أو رميا بالرصاص، إذا وجدت بحوزته ولو رصاصة واحدة.
إسرائيل عند قيامها كانت تسيطر تماما على حوالي ثلثي فلسطين الانتدابية؛ فقد احتلت بقوة السلاح والمجازر وتواطؤ بريطانيا وأوضاع العرب المعروفة سياسيا وعسكريا، على غربي القدس والنقب والجليل والساحل باستثناء غزة.
وكان لا بد من تغيير الوعي والفكر الذي كان ينادي بإزالة إسرائيل من الخريطة، والذي كان يطغى على العقل العربي نظريا، دون أن تسنده حالة جدية عسكريا واقتصاديا...فكانت هزيمة حزيران/يونيو 1967 التي أكملت إسرائيل من خلالها احتلال ما تبقى من فلسطين (شرقي القدس وفيها المسجد الأقصى،وبقية الضفة الغربية وقطاع غزة) وأراض عربية أخرى(الجولان وسيناء) مما أحدث صدمة كبيرة وتداعيات سياسية واجتماعية وفكرية مختلفة...والمحصلة وجود قابلية عربية لوجود إسرائيل على أرض فلسطين، أي تحول جذري لماهية الصراع بحيث صار صراع حدود لا صراع وجود...واستلزم الأمر عشرات السنين لتجفيف أو لإضعاف الفكر المنادي بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وباستثناء صدام حسين، الذي نعرف مصيره، فإنه مع دخول الألفية الجديدة لا يوجد أي قيادة لأي دولة عربية تطالب-ولو من باب المزايدة الإعلامية- بتحرير كل فلسطين.
إسرائيل حاليا دولة قوية وليس ثمة جيوش تهددها، وحركات المقاومة في فلسطين ولبنان، مع كل التقدير لبطولاتها تظل في إطار الاستراتيجية الدفاعية، وهي(إسرائيل) تستغل الوضع الدولي والإقليمي والخلاف الفلسطيني لإحكام قبضتها على كل الأرض الفلسطينية.
وكانت فكرة التسوية تقوم على انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة بعد هزيمة العرب في 1967 مقابل تطبيع العلاقات أو السلام، وهذا الهامش المتاح للعرب بعد الهزيمة المذكورة كان مسنودا بقرار مجلس الأمن 242 (ولاحقا 338) ووجود دول عظمى وكبرى تنادي به ولو نظريا، وتتلخص الحلول المطروحة بإقامة دولة فلسطينية على حدود 67 تعيش بجوار دولة إسرائيل المقامة على ثلثي فلسطين الانتدابية، أي الأرض مقابل السلام، وهو ما لم تعلن إسرائيل على لسان أي من زعمائها قبولها به، ولا حتى الأمريكان دعموا هذه الفكرة.
وفي المقابل إسرائيل كانت ترى في عملية التسوية فرصة لتثبيت المنجز عسكريا؛ لهذا وافقت على تنازل مشروط عن سيناء، تضمن من خلاله إبعاد الجيش المصري عن حدودها، وإقامة علاقات دبلوماسية(ولاحقا أمنية واقتصادية) مع مصر، لأنها أدركت معادلة(لا حرب بدون مصر ولا سلام بدون سورية) وتفرغت لتعزيز الاستيطان.
لكن إسرائيل لم تكن طريقها معبدة بالورود في مواجهة الشعب الفلسطيني؛ فقد رفض الفلسطينيون الاحتلال بمقاومة سلبية أولا، ثم انتفاضتين-بأدوات مختلفة-خلال 13 عاما، وتزايد عدد الفلسطينيين بين النهر والبحر حيث أنه حاليا أكثر من عدد اليهود.
ولهذا عمدت إسرائيل إلى تقسيم إداري مدعما بقوانين ماكرة يفصل الفلسطينيين داخل وطنهم عن بعضهم؛ فهناك قوانين خاصة بأهل القدس وقوانين خاصة بسكان الضفة الغربية(وهذه لها تقسيماتها مثل خلف الجدار ومناطق ج) ووضع قطاع غزة المحاصر، وقوانين خاصة بحوالي مليون وثمانمئة ألف فلسطيني (حوالي 21%) داخل ما يسمى بالخط الأخضر.
وبتسارع محموم عمدت إسرائيل إلى تسريع وتيرة سلب الأراضي والاستيطان في الضفة الغربية لا سيما في القدس، وصارت تعلن على لسان مسئوليها عن استعداد عربي رسمي لتطبيع العلاقات معها دون أن تحل المشكلة الفلسطينية، أي دون قبول المبادرة العربية للسلام التي أعلنت في بيروت عشية محاصرة مقر الرئيس أبو عمار في 2002.
بل الحديث اليوم عن (الحل الإقليمي وصفقة القرن) وإرسال تسريبات أو (فتاشات) مدروسة إلى الإعلام، وكأن العرب لا مانع لديهم من إعلان ما هو مخفي من علاقات مع إسرائيل، أو إقامة علاقات طبيعية معها، وليقبل الفلسطينيون بتحويل قضيتهم إلى مجرد (سلام اقتصادي) ويرضوا بالمطروح عليهم!
الصورة بهذا تبدو سوداوية للغاية ولهذا صار التحرك الفلسطيني تلميحا وتصريحا نحو إمكانية طرح فكرة/حل الدولة الواحدة لجميع مواطنيها.
وبالطبع هذا يتناقض جملة وتفصيلا مع فكرة الصهيونية، ولا توجد إرادة دولية، لإجبار إسرائيل بوضعها الحالي، إلى اتباع أو محاكاة ما حصل في جنوب أفريقيا؛ فنتنياهو ليس (دي كليرك) وهو وبقية القيادة الصهيونية يدركون أنهم في وضع جيوسياسي خاص ومختلف، كما أن قضية القدس وهي لب الصراع ومركزه لا تحتمل ولا تقبل أي حل وسط أو (فكرة إبداعية) وإسرائيل هي جيش له دولة وليس العكس...هي كما قلت أعلاه بمثابة حملة صليبية ذات طابع خاص.
ومع ذلك فإن طرح هذه الفكرة في ظل ورقة الديموغرافيا، بالتزامن مع تعزيز المصالحة(ولو بالحد الأدنى) يقلب كل الحسابات ويربك المشروع الصهيوني كثيرا...فلا بأس من المحاولة.
أما العوائق فنتحدث عنها في مقال قادم بمشيئة الله.
بقلم/ سري سمّور