مع زيارة رئيس حكومة السلطة الفلسطينية لغزة، اصبح ملف المصالحة ساخنا، وهذا تعليق صحفي حول خلفياته وأبعاده: إذ اعتبرت حركة فتح أن أي محاولة لإفشال المصالحة هي خيانة وعمل غير وطني وأجندات مشبوهة (شاشة نيوز 30/9/2017)، كما نقلت وسائل الإعلام عن السنوار رئيس حركة حماس في غزة قوله: سنقدم تنازلات صاعقة، وسأكسر عنق كل من لا يريد المصالحة. (فلسطين اليوم 28/9/2017).
بدون مقدمات عاطفية طويلة، فإننا نتفهم تلك المعاناة الطويلة التي خاضها أهلنا في غزة، ونستوعب حاجتهم للخروج من مأزق الحصار الجائر من قِبَل الأشقاء والأعداء، ونُدرك أنهم ليسوا مكلفين بحمل عبء مشروع التحرير العسكري نيابة عن الأمة، ونقرر مع الجميع أنه ليس ثمة مصلحة لأي مخلص في الشقاق بين الفصائل الفلسطينية، ونحن كنّا ضد الاقتتال بين الإخوة على الطرفين، ودعونا دائما لحقن الدماء، والتوقف عن التنكيل في السجون.
ومع ذلك كلّه، لا يمكن أن نتعامى عن الحقيقة الشاخصة: وهي أن المصالحة مشروع سياسي بين حكومتي غزة والضفة الغربية، إذ لا شقاق بين أهل غزة وأهل الضفة الغربية... وحتى نفهم الحاجة لها، لا بد أن نسترجع أسباب الانشطار السلطوي بين الحكومتين، وخلفية ذلك لدى الحركتين اللتين انفردت كل واحدة منهما بحكومة، وتريدان اليوم الالتحام من جديد، تحت ضغط الواقع المرير، أو التهديد السياسي الصعب.
إذ في العام 1996 رفضت حركة حماس دحول انتخابات السلطة (التشريعية) على اعتبار أنها جرت "تحت حراب المحتل الصهيوني"، ووصفتها بأنها "انتخابات أوسلو"، وأنها "انتهت بتكريس قبضة سلطة الحكم الذاتي ذات التوجه السياسي"، حسب بيان حماس في حينه. ثم كان العام 2006 عام ظهور اللاعبين الجدد، وخاضت حماس تلك الانتخابات (الباطلة)، مما مثّل انقلابا فكريا سياسيا على موقفها قبل عقد من ذلك التاريخ، فدخلت أو أُدخلت قفص السلطة تحت الاحتلال، وكانت "المواجهة" حتمية.
لم يدُم "العرس الديمقراطي الفلسطيني" طويلا، فبدأ الاقتتال الداخلي انتقاما لما كان من تعذيب لرجالات حماس في سجون السلطة ومنهم الشهيد الرنتيسي رحمه الله، واستفرادا بالسلطة، ولعل ذلك كله كان - بقصد أو بدون قصد - تمهيدا لصدور "وثيقة الأسرى" في حزيران 2006، التي أُعدّت لرأب الصدع، فما كان منها إلا أن أحدثت الصدع الأكبر في الوعي، وفتحت الطريق المشترك بين حماس وفتح نحو الاعتراف بالاحتلال اليهودي من خلال صيغ لغوية مركبّة وملتوية، وأبدعت في تخصيص منظمة التحرير ورئيسها بالمسئولية عن إدارة المفاوضات، ولم تُجرّمها! بل أوجدت أفقا جديدا للتحرك الحمساوي - الفتحاوي المشترك نحو حل الدولتين (الأمريكي)، بغض النظر عن بديع الألفاظ ولمعان العبارات.
ثم تكرر الاقتتال الداخلي بين فتح وحماس، وتم خوض جولات الحوار في عدد من عواصم الأنظمة العربية التي تآمرت على قضية فلسطين والتي تخلّت عن واجبها تجاهها، كثرت فيها جعجعات المصالحة واتفاقاتها: مرورا باتفاق مكة في شباط 2007، ثم اتفاق صنعاء في آذار 2008، والتقاء وفود المصالحة على موائد قطر والقاهرة.
وكانت حرب كيان يهود الشرسة على غزة مطلع عام 2009، ممهدا تلقائيا لورقة المصالحة "المصرية"، التي تفرّعت فيها ملفات عديدة: وشملت ترتيبات إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني، وتفعيل وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية، إضافة إلى تشكيل قوة أمنية بإشراف مصري وعربي لإعادة تشكيل الأجهزة الأمنية... ثم حدث جدل فصائلي حول "قدسية منظمة التحرير الفلسطينية"، وتضمن الحديث عن مرجعية بديلة عن المنظمة طال فترة من الزمن، ثم انتهى إلى التباحث حول دخول الفصائل إلى تلك المنظمة.
وها نحن من جديد، أمام مشهد المصالحة على الطاولة المصرية، وملفاتها وأطروحاتها، نتفهم تلك المعاناة الطويلة التي تكبدها أهل غزة، ولكننا في الوقت نفسه نحذّر من أن الخروج من مأزقٍ لا يبرر الدخول في مآزق، كما حذرنا الإخوة في حماس من قبل من فخ الانتخابات التشريعية، وكما حذرنا الأطراف من جريمة الاقتتال. واليوم نحذر الجميع من فخ التنازلات من أجل الخروج من ذلك المأزق المرير، كما نحذّر من سياسة كسر الأعناق لفرض الرؤى السياسية، فإن الدماء التي أريقت من قَبل تحت دعوى "الحسم العسكري" إن ذهبت في الدنيا، فقد بقيت مظلمة في الآخرة، ولات حين مناص.
وبعد ذلك كله، نستشرف أن سلاح المقاومة سيكون عقدة أمام المنشار السياسي، وسيكشف المشروع كله!
بقلم/ ماهر الجعبري