غزة بين الواقع والتوقعات

بقلم: نبيل عمرو

زحف الغزيون عن بكرة أبيهم لاستقبال الحكومة القادمة من رام الله، ومن لم تساعده ظروفه على النزول إلى الشارع، فقد تابع الحدث الكبير عبر شاشات التلفزيون، خصوصاً في البيوت والمقاهي القليلة التي تصل إليها الكهرباء.
وعلى ذكر الكهرباء، فقد أدخل الغزيون تعديلاً على الوصف الشهير للحمَّى الذي جادت به قريحة الشاعر الفيلسوف المتنبي، فقال الغزيون عن الكهرباء:
وزائرتي كأن بها حياء
فليس تزور "حتى" في الظلام
وما ينطبق على الكهرباء ينطبق على الماء، وما ينطبق على الماء والكهرباء ينطبق على السكن.
أمام حكاية السفر وتوفر العلاج الطبي المتقدم، فهذا ترَف تعوّد الغزيون على الاستغناء عنه، وأناس هذا حالهم لا يخرجون بهذه الكثافة إعجاباً بحكومة أو دعماً لموقفها وبرامجها، فماذا يدعمون؟
إن مليونَيْ غزيّ يتشاطرون هَمَّ الكفاف والحرمان من أبسط مقومات الحياة، والذين هذا حالهم لا يملكون سوى التأمل بما يأتي من وراء الحاجزَيْن؛ ما وراء "إيريز" مسافة طويلة يقطعها الذاهب والعائد إلى الجزء الآخر من الوطن، مع الاضطرار إلى عبور ممر إجباري تمنحه إسرائيل لعشرات الأشخاص في أفضل الحالات، وتغلقه أمام الجميع في معظم الحالات، وعلى الجانب الآخر تقع رفح، تلك المدينة المشتركة بين الجغرافيا الفلسطينية والجغرافيا المصرية، ولكثرة ما تردد معبر رفح كقضية، صار الأشهر من بين المعابر البرية والبحرية والجوية على مستوى العالم كله، وأهل غزة يتوقعون الكثير من مصر على هذا الصعيد.
تابعت عشرات المقابلات التي أجراها المراسلون مع المواطنين العاديين في غزة، وساورني قلق حول توقعات المواطنين من المصالحة، فهم ينتظرون قرارات فورية بشأن كل ما يعانون منه على مدار السنوات العشر الماضية، وأجمعوا على مقياس واحد للنجاح، وهو تلبية هذه المطالب دونما استعداد لتفهُّم مبررات محدودية القدرة لدى السلطة، ومن يدعمها في هذا الاتجاه، حتى إن أول تعليق رسمي لحماس على أول بيان حكومي رسمي كان سلبياً، بل وقيل فيه صراحة إنه مخيب للآمال.
معادلة المواطنين الذين زحفوا لاستقبال الحكومة القادمة من رام الله تختلف عن معادلة السياسيين الذين وقفوا على المنصة وشبكوا أيديهم التي كانت تتقاتل بالأمس، ورفعوها إلى أعلى كما لو أنهم يقولون للمواطنين وللعالم: لقد انتهى كل شيء.
كان أهل غزة وفلسطين سيسعدون أكثر لو رأوا هذه الصورة إعلاناً لنتائج الحوار والمصالحة، أما وأنها في أوج احتفال اليوم الأول فقد يستذكرون عشرات المرات التي رُفِعَت فيها هذه الأيادي في عشرات العواصم التي استضافت حوارات المصالحة.
أدقّ وصفٍ لما جرى في غزة أنه محاولة قوية وجديدة غيرت فيها مصر أسلوب عملها، ذلك أن الوفد المصري عالي المستوى والقدرات، ورسالة الرئيس السيسي الصوتية للمجتمعين في غزة تشير إلى أن الدولة العظمى والجار الوحيد لغزة لن تغادر مهمتها من أول عقبة، ولا مما يليها من عقبات، والجديد الآخر هو الربط بين ما تقوم به مصر من جهود ميدانية في غزة وما يُفتَرَض أن تقوم به الإدارة الأميركية من إعداد لمقترحات يمكن أن ترقى إلى مستوى مبادرة، في سياق صفقة القرن، وهذا الجديد الذي يكتنفه غموض ونتعاطى معه بمحض التوقعات والاستنتاجات، ربما يكون عاملَ النجاح الأهم، فكل ما سبق من محاولات لم يكن له أي صلة بالإطار الأوسع المتصل بالتسوية.
بديهي أن يكون هنالك مسافة بين التوقعات ذات الدوافع الملحّة، والواقع بتعقيداته وتداخلاته، وأجندات المؤثرين فيه، وهذا ما ينبغي أن ينتبه إليه الفلسطينيون أولاً الذين هم الموضوع.
أما المصريون فهم في هذا الأمر منتبهون ومتوغلون.

نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني