نعلم أن الظواهر الطبيعية مثل العواصف والبراكين والزلازل وغيرها لا تأتي من فراغ فكل ظاهرة يكون لها أسبابها منها التراكمية الكامنة التي تولد صغيرة ثم تكبر وتتراكم حتى تحتقن وتنتظر الانفجار ومنها الأسباب المباشرة التي تعمل عمل الصاعق المحرض للانفجار، فإن كانت الظواهر الطبيعية تخضع لهذا القانون فإن الأحداث الثورية والانتفاضية الغاضبة في عالم الإنس أيضًا تخضع لهذا القانون الكوني والذي لخصه نيوتن لكل فعل له ردة فعل، فعلى ضوء هذا الفهم فإن أي محاولة للحديث عن الأحداث الجارية في القدس وباقي الأراضي الفلسطينية حديثًا موضوعيًا لا بد أن ننظر للأسباب والذي يمثل الاحتلال الصهيوني لفلسطين بشكل عام والقدس على وجه الخصوص أهمها.
فانتفاضة القدس الأخيرة هي حدث يعبر عن ردة فعل طبيعية لجيل عاش الاحتلال وظلمه منذ أن خرج للدنيا وأبصر الحياة ، أجيال تعاقبت والاحتلال جاثٌم على صدورهم، منهم أجيال شهدت لحظة الاحتلال فمنهم من قضوا نحبهم وآخرون هرمو والاحتلال باقي، وأجيال أخرى ولدت في ظل الاحتلال وكلاهم عاش معاناة وقمع لمدة خمسين سنة، لم يروا في حياتهم إلا الاحتلال، عاشوا التمييز والظلم في كل شيء منها: مصادرة الممتلكات، وسحب الهويات، والاعتقال المتكرر، والتهديد بالإبعاد عن القدس، ونظام التعليم الذي حاولت إسرائيل تهويده لطمس الهوية الوطنية لدي سكان القدس ولم تفلح، والمسكن الذي يمنع المقدسيون من بنائه أو تطويره من خلال رفض الاحتلال إعطائهم ترخيص بناء، وقيود العمل المفروضة بالحصول على تصريح للتنقل، وكثرة الغرامات المفروضة عليهم والقائمة في هذا الخصوص طويلة، فضلًا عن حرمان جيل الشباب من الصلاة في المسجد الأقصى كإجراء أمني الشكل وانتقامي الهدف.
هذه المعاناة والذي يتجرعها المواطن المقدسي يوميًا لم تثنيه عن الدفاع عن مدينته ولا عن مقدساته، منذ بداية الاحتلال وهناك عدة أحداث أثبت فيها المقدسيون أنهم حماة لمدينتهم وأولى قبلتهم ومنها: حادثة حرق المسجد الأقصى في أغسطس عام 1969، والتي اندلع على أثرها موجة غضب جماهيري سقط خلالها العديد من الشهداء والجرحى، والعمليات الفردية التي قام بها الشباب الفلسطيني في أكتوبر1990 في القدس، وانتفاضة النفق في سبتمبر عام 1996 والاعتراض على اقتحام شارون للأقصى سبتمبر عام 2000، مما أدي إلى اندلاع انتفاضة الأقصى، وانتفاضة القدس الاخيرة التي بدأت في الثالث من أكتوبر/ تشرين أول2015 عندما قام أحد طلاب الحقوق وهو مهند الحلبى ابن العشرين ربيعًا وهو أحد الشباب الفلسطيني اللاجئ من يافا إلى أحد مخيمات اللاجئين في نابلس بتنفيذ عملية فدائية من تلقاء نفسه دون توجيه من أي من التنظيمات الفلسطينية، وقتل فيها اثنين من المستوطنين وإصابة 3 آخرين بجروح حرجة، واقتدى به العديد من الشباب والشابات الفلسطينيين. وحذوا حذوه متسلحين بالإيمان بالله في قلوبهم وبعدالة قضيتهم في عقولهم وبوسائل نضالية متعددة في أيديهم،، وشهدت هذه الانتفاضة عدة أحداث كبيرة كان آخرها أحداث إغلاق الأقصى في منتصف يوليو/تموز2017، واستطاعوا بوحدتهم أن ينتصروا على المحتل وأجبروه على التراجع وفتح الأقصى ورفع البوابات الإلكترونية الذي فرضها على أبواب الأقصى. ليثبتوا من خلال تضامنهم وتعاضضهم للعالم أنهم أصحاب الحق في القدس بلا منازع، وللإسرائيليين أن المسجد الأقصى خط أحمر محصن بإيمان أهل القدس بعقيدتهم. ورسالة للفصائل الفلسطينية المنقسمة على نفسها، أن الوحدة الوطنية هي ترياق النصر والحرية.
وهذه الانتفاضة أظهرت العديد من الحقائق منها: أن سياسة إسرائيل لردع الانتفاضة هي إجراءات انتقامية بحته، ولكنها مدروسة ومتقنة، من خلال مدها بتشريعات قانونية تخدم أهدافها وتحصنهم من العقاب، وإعطائها مظهرًا ديموقراطيًا أمام المجتمع الدولي. حيث استخدمت إسرائيل كامل سلطاتها( العسكرية، والأمنية، والسياسية والتشريعية) في قمع الانتفاضة والقضاء على العمليات الفردية، ولكنها لم تفلح في تحقيق هدفها، حيث أخفقت في تمرير بعض مخططاتها التهويدية للأقصى، مثل فرض البوابات الإلكترونية على أبواب المسجد، إلا أنها حققت نجاحًا ملحوظًا في بعضها، منها: زرع كاميرات مراقبة على المسجد، وتمرير قانون منع الأذان في الأقصى. بالرغم من هذا لم تنجح الانتفاضة من الحد من إجراءات تهويد المدينة، فهناك مخططات إسرائيلية رسمت بدقة وتنفذ بإتقان منها الحفريات تحت المسجد الأقصى، ومحاولة أسرلة التعليم في القدس، وبناء المستوطنات وتطوير بعضها. وعزل القدس عن مدن الضفة الفلسطينية. كما كشفت الانتفاضة عن مدى وحشية الاحتلال وتبين هذا من خلال الأعداد الكبيرة للشهداء والجرحى والأسرى الذين أمعنت إسرائيل في الانتقام منهم، وخصوصًا أنها لم تستثن أحدًا من أطفال ونساء وشباب ومرضى، حتى الأموات -الشهداء- لم يفلتوا من العقاب والانتقام، بأن تم احتجاز جثامينهم في عملية تبريد وصلت إلى 40درجة تحت الصفر. فضلًا عن قيامها بهدم منازل منفذي العمليات الفدائية واعتقال أهاليهم ومنعت بعضهم من السفر للخارج. محدثًة بذلك إجراءات لم يسبقهم لها أحد. وكشفت الانتفاضة أيضًا أنه مهما ضعفت الحالة الوطنية تبقى القدس محصنة بانتماء أبناءها الصادق لها وهذا ظهر واضحًا عند انطلاق مجموعة من الشباب بتنفيذ عمليات فردية ضد أهداف إسرائيلية دون توجيه من الفصائل الفلسطينية، خصوصًا في ظل تراجع أداء فصائل المقاومة من أخذ زمام المبادرة.
وأهم ما تحتاجه هذه الانتفاضة هو: تشكيل لجان مختصة لمواجهة الإجراءات التي تواجهها القدس من مخططًا إسرائيليًا لتهويدها، ودعم صمود أهالي القدس كونهم يواجهون هذه الإجراءات ويعيشون معاناتها ليلًا ونهارًا. وعلى الفصائل الفلسطينية كافة العمل على إنجاز إنهاء الانقسام الذي أضر بالقضية الفلسطينية ضررًا كبيرًا بشكل عام، وعلى أليات دعم القدس على وجه الخصوص والعمل على إرساء الوحدة الوطنية وجعل نصرة القدس خارج كل المناكفات والمحصصات السياسية، حتى يتسنى لأهل القدس القدرة على الصمود ومواجهة مخططات الاحتلال لاقتلاعهم من بيوتهم وقراهم ومدينهتم. والعمل على تطوير الانتفاضة ومدها بأساليب وخطط شعبية لمواجهة مخططات التهويد، وآليات وخطط إبداعية تكون أكثر إنجازًا وأقل ضررًا على المواطنين. وإسناد أهالي القدس بخطة إعلامية مكثفة لإظهار معاناتهم اليومية، تكون موجهة إلى المجتمع الدولي. حتى تشكل رأيًا عامًا عالميًا يكون في صالح القدس وأهالي القدس، وكاشفة للإجراءات العنصرية الصهيونية والتي تدعي الديموقراطية.
دكتور محمد عبد الجواد البطة