رفع السيّد حسن نصر الله في خطابه الأخير من سقفه تجاه القضية الفلسطينية، ووجّه إنذاراً واضحاً لجمهور الصهاينة في أرض فلسطين المُغتصبة. لقد قال لهم إن عليهم تدبّر أمورهم مبكراً والخروج من فلسطين قبل أن يأتي يوم لا يجدون فيه ملاذاً. وقد كان واضحاً معهم في ألا مكان لدولتهم في المنطقة العربية الإسلامية، وأن أياماً سوداء خانقة تنتظرهم. وكان واضحاً أن السيّد حسن كان يتحدّث بثقة واطمئنان ما يُشير إلى أنه يملأ يده: أي واثق من قدرته على حشد القوى الكافية لإزالة الكيان الصهيوني.
على الرغم من أن خطاب السيّد حسن قد دغدغ عواطف جماهير غفيرة على اتّساع الوطن العربي وبثّ في نفوسهم الاطمئنان، إلا أن بعضهم يتحفّظ على ما أتى في الخطاب خوفاً من تكرار المشهد الفهلوي العربي الذي ساد قبل حرب عام 1967. التحفّظ ليس قائماً على تشكيك بصدقيّة السيّد لكنه ناجم عن تجربة هزيمة حزيران المريرة والتي ما زالت شعوب عربية تعاني من ويلاتها حتى الآن. لقد وعدنا قادة مصر وإعلامهم بتحرير فلسطين، ووعدوا أسماك البحر الأبيض المتوسّط بوجبات دسمة وساخنة عندما نُلقي اليهود في البحر، لكننا اكتشفنا أن أجسادنا هي الوليمة. ومع هؤلاء حق في أن يتساءلوا حول إمكانات حزب الله لتحقيق ما يترتّب على هذا الإنذار. وعلينا أن نراعي الفروق الواسعة بين قيادة السيّد حسن والقيادة المصرية آنذاك.
لتحقيق ما أنذر السيّد حسن الصهاينة حوله، يحتاج حزب الله إلى قوة نارية ضخمة وإلى أعداد كبيرة من المقاتلين. طاقة حزب الله النارية أقل بكثير من طاقة الصهاينة، وقد استطاع عام 2006 أن يتغلّب على هذه المسألة من خلال تكتيك تحييد سلاح الجو وسلاح الدبابات. لقد اتبّع حزب الله تكتيكات عسكرية وقائية تعطّل فاعلية العديد من أسلحة العدو، ولهذا فشل العدو من النيل من العسكريين فصبّ جام غضبه على المدنيين وبيوتهم. أما الناحية العددية فإن حزب الله أكثر نفيراً من جيش الصهاينة الأكثر عدداً. يبلغ جيش الصهاينة مع قوات الاحتياط أكثر من 600 ألف جندي، وقوات حزب الله تُعدّ عشرات الآلاف. فإذا قلنا إن النفير كيفي وليس عددياً فإن جندي حزب الله قد يوازي خمسة أو ستة جنود صهاينة. لكن مهما بلغت مهارة قوات حزب الله وانضباطها، يبقى عدد الجيش الصهيوني كبيراً جداً ويستطيع أن ينتشر على مساحة جغرافية أكثر اتساعاً من المساحة التي يمكن أن ينشر حزب الله قواته عليها.
ويجب أن نأخذ بالحسبان احتمال انضمام قوات عربية للجيش الصهيوني بهدف التخلّص من حزب الله. هل من الممكن أن يدخل الجيش الأردني المعركة لتوفير حماية للجيش الصهيوني من الزاوية الشمالية الغربية للأردن في منطقة الحمة الأردنية؟ وهل من الوارد انضمام بعض الفلسطينيين إلى قوات الصهاينة؟ لقد ثبت عملياً أن القوات الأردنية تقف حارساً على الحدود الشرقية للكيان الصهيوني، وأن قوات فلسطينية تلاحق المقاومين الفلسطينيين. وليس غريباً على مَن يقدّم خدمات أمنية للصهاينة أن يحارب إلى جانب الجيش الصهيوني. قد لا يحصل ذلك، لكن من الضروري الاحتياط حتى لا تحصل مفاجآت.
فإذا كان الأمر كذلك، فإن حزب الله بحاجة لقوات نظامية لحماية ظهره وخاصرته من الجهة الأردنية وتخفيف الضغط عنه . هو بحاجة لجيش نظامي يملك الدبابات والطائرات والصواريخ الكفيلة بإشغال القوات الصهيونية في عدد من المحاور القتالية. أمامنا في هذا الصدد عدّة احتمالات وهي: دخول الجيش السوري الحرب، دخول الجيش الإيراني، دخول قوات الحشد الشعبي العراقية، ومشاركة قطاع غزّة بفتح جبهة جنوبية. الجيش السوري يحتاج إلى عدد من السنوات لإعادة بناء نفسه وترتيب أوضاعه وفق مقتضيات الجيوش الحديثة، وبحاجة إلى قدرات هجومية أو أسلحة دفاعية تُبطل فاعلية أسلحة الصهاينة المتطورّة والفتّاكة. وحتى الآن لم تسلّم روسيا سوريا الصواريخ المتطوّرة المضادّة للطائرات. أما إيران فستجد من الصعب إرسال جيش بأكمله بخاصة أن هناك عراقيل جغرافية أردنية. العراق تسمح بدخول القوات الإيرانية باتجاه سوريا ولبنان، لكن الأردن لن تسمح. لكن إيران تتمكّن من فتح باب المتطوّعين الإيرانيين، ويتمكّن جيش القدس والحرس الثوري من إرسال قوات مساندة تملك قوة عسكرية نظامية. أما قوات الحشد الشعبي العراقية فتبقى معلّقة بقرار حكومة بغداد، وحكومة بغداد ستقدّر الأمر وفق الظروف التي تكون سائدة أثناء اشتعال الجبهات. وهنا لا بدّ من التأكيد على أن الدعم العسكري لحزب الله يجب أن يبدأ بفترة طويلة قبل اشتعال الحرب. لا يجوز دخول قوات دعم ومساندة أثناء الحرب حتى لا تحصل فوضى في صفوف قطاعات الجيش المختلفة. وهذا يعتمد على قرار الحكومة السورية بالدرجة الأولى.
وهنا يجب أن نلاحظ أن الكرد أخذوا يشكّلون معضلة عسكرية وأمنية لبغداد، ومن المحتمل أن يشغلوا الحكومة العراقية والجيش العراقي على مدى سنوات قادمة. ونلاحظ أيضاً أن هناك محاولات عربية وأميركية وصهيونية للإطباق على حركة حماس حتى لا تسير في طريق نحو طهران وحزب الله. بإمكان حماس أن تفتح جبهة من قطاع غزّة بالتعاون مع فصائل المقاومة الأخرى، ويبدو أن أصحاب الحلول الاستسلامية قد تنبّهوا للمسألة وقرّروا شفط حماس قبل أن تتفتح الأبواب أمامها نحو طهران وضاحية بيروت الجنوبية.
ومسألة أخرى من المفروض أخذها بعين الاعتبار وهي القنابل النووية الصهيونية. إذا كان حزب الله سيزيل الكيان الصهيوني وسيدفع بالصهاينة خارج فلسطين، فإن الكيان سيعتبر ذلك نهايته فيقدم على اتباع سياسة عليّ وعلى أعدائي. لن يتردّد الكيان عندها في استعمال قنابله النووية التي يسود اعتقاد أنها قنابل تكتيكية وليست استراتيجية، أي ضعيفة وذات مفعول محدود. فماذا أعد حزب الله لهذا الاحتمال؟ هل يتمكّن حزب الله من ضرب مخازن القنابل وتعطيل القدرات الجوية والصاروخية الصهيونية التي يمكن أن تقذف تلك القنابل؟ وما هو التكتيك العسكري الذي يمكن أن يتبعه حزب الله لحماية قواته؟ من المعروف أن التدابير التي يمكن اتخاذها تقتضي نشر القوات على مساحات جغرافية واسعة ومنع تجمّعها حتى لا يتمكّن العدو من النيل من قوات كبيرة العدد. تجمّع القوات يشكل فرصة للكيان للقضاء على قوات عسكرية كبيرة العدد. والأفضل أن تنتشر القوات حتى لا يتمكّن العدو من تحقيق إصابات جماعية. على كل حال، هذه مسألة خطيرة تتطلّب تفكيراً استراتيجياً ومشاركة فرق من الخبراء بالمسائل النووية وتشكيلات أنفاق الحماية وتكتيكات تجنّب الأضرار ما أمكن.
إنذار حزب الله للصهاينة يشكّل تحوّلاً جديداً في نمط الصراع ومداه. والمطلوب أن يعود الفلسطينيون إلى رشدهم حتى لا يبقوا خلف الناس في الدفاع عن قضيتهم. حركتا فتح وحماس تتلهّيان بالشعب الفلسطيني على مدى سنوات. الآخرون يعدّون ويستعدّون ويحملون القضية الفلسطينية على ظهورهم، والفصائل الفلسطينية تنشغل بتوافه الأمور. شعب فلسطين بحاجة إلى ثورة شعبية لكي يتمكّن من إدارة دفّة مصير الوطن والشعب. ما يجري على الساحة الفلسطينية عبث واستهتار، ولن يتوقّف إلا بقوة شعبية تفرض واقعاً جديداً على القيادات الفلسطينية.
د. عبد الستار قاسم، أكاديمي ومفكر فلسطيني