بقرارها الانسحاب “رسميًّا” من مُنظّمة الأمم المتحدة للتربيّة والعلوم والثقافة (يونسكو) بسبب “انحيازها ضِد إسرائيل”، تُؤكّد الولايات المتحدة الأمريكيّة مُجدّدًا وقوفها في خَندق الباطل، ودَعمها للعُنصريّة والاحتلال وجَرائم الحَرب التي يَرتكبها هذا الاحتلال في الأراضي العربيّة المُحتلّة مُنذ سبعين عامًا تقريبًا.
هذا القرار من قِبل دَولةٍ تَدّعي زَعامة العالم الحُر، ومُكافحة الإرهاب، هو الذي سيُصعّد الإرهاب، ويَقتل ثقافة التّسامح، وتطوير التعليم، والحِفاظ على التّراث الإنساني ويُعزّز التطرّف في العالم بأسره.
الذّنب الأكبر الذي ارتكبته هذهِ المُنظّمة الدوليّة المُحترمة، وتُعاقبها أمريكا من أجله، قُبولها بدولة فلسطين عُضوًا فيها، وإقرارها في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2016 بأن المسجد الأقصى تراثٌ إسلاميٌّ خالص لا علاقة لليهود به، ولا سيادة لهم على المدينة المُحتلّة، وإدانتها لأعمال الحَفر التي تَقوم بها سُلطات الاحتلال الإسرائيلي، ويَستهدف جانبًا مِنها المَسجد الأقصى.
زعيمة العالم الدّيمقراطي الحُر تَرفض هذهِ القرارات التي صَدرت بعد تصويتٍ حُر نزيه شفّاف شاركت فيه جميع الدّول الأعضاء، وفي مُنظّمةٍ ترأسها السيّدة البلغارية ايريما بوكوفا، التي جَرى انتخابها لفَترتين مُتتاليين لحِياديّتها وجُرأتها وانحيازها للقضايا الثقافيّة والإنسانيّة العادلة.
***
دولة الاحتلال الإسرائيلي سَحبت سَفيرها في مُنظّمة اليونسكو احتجاجًا، بعد أن فَشِلَت كل مُحاولاتها في مَنع صُدور مِثل هذهِ القرارات، وتَضامنت مَعها الولايات المتحدة التي أوقفت كل مُساعداتها الماليّة، وها هي تَنسحب كُليًّا من المُنظّمة، وتُثبت أنّها إسرائيليّة أكثر من الإسرائيليين أنفسهم.
السّؤال الذي يَطرح نَفسه بقوّةٍ حاليًّا في أروقة الأُمم المتحدة هو عن أسباب اتخاذ الولايات المتحدة قرار الانسحاب في مِثل هذا التّوقيت بالذّات، حيثُ تَشهد المُنظّمة انتخاباتٍ مصيريّةٍ وحسّاسة لانتخاب المُدير العام، وتَنحصر المُنافسة بين ثلاثة مُنافسين من بينهم اثنان من العَرب، هُما القطري الدكتور حمد الكواري، والمصرية مشيرة خطاب، إلى جانب الفرنسية من أصلٍ يهوديٍّ مغربي اودريه ازولاي، ابنه السيد اندرية اوزلاي، مُستشار العاهل المغربي محمد السادس، ووالده الرّاحل الحسن الثاني من قِبله.
الجولة الثّالثة من الاقتراع السرّي كَشفت عن تصدّر المُرشّحَين القطري والفرنسي السّباق بعد حُصول كل مُنهما على 18 صوتًا، وتَلتهما مُرشّحَة مصر مُباشرةً بحُصولها على 13 صوتًا، ومن المُتوقّع أن يَستمر التّصويت السرّي في جولاتٍ أُخرى حتى يوم الجمعة.
الانسحاب الأمريكي وتوقيته، والمَحسوب بعنايةٍ، يَصب في مَصلحة المُرشّحة الفرنسيّة التي تُؤكّد في بَرنامجها الانتخابي على عَدم تأييدها لتسييس مُنظّمة “اليونسكو” والتّركيز على الأمور الثقافيّة والتراثيّة والعلميّة والتربويّة فقط، في تلميحٍ لمُعارضتها قرار نَفي أيّ صلةٍ لإسرائيل واليهود بالمدينة المُقدّسة ومَساجدها وكنائسهاـ فكيف يُمكن عَزل الثّقافة والتّعليم عن السياسة في أراضي مُحتلّة تتعرّض فيها المدارس وتلاميذها للقَصف والتّدمير، مِثلما شاهدنا في قطاع غَزّة، وتتعرّض مَساجدها وكنائسها للشيء نَفسه.
كان من الطّبيعي أن تكون الحُكومة الإسرائيليّة، وعلى لسان سفيرها في الأمم المتحدة داني ياتوم أول المُرحّبين، وربّما آخرهم، لانسحاب أمريكا من المُنظّمة، بُعيد اتهامها بمُعاداة إسرائيل، مُشيرًا، أي السفير، “بأنّنا نَقف الآن أمام عهدٍ جديد”، مُتباهيًا بقَوله “هُناك ثَمن لدَفعه مُقابل التّمييز ضِد إسرائيل”.
الإدارة الأمريكيّة تُدين نَفسها، وتُطلق النّار على قَدِمها، بالإقدام على هذهِ الخُطوة “الابتزازيّة” لواحدةٍ من أهم المُنظّمات الدوليّة حِيادًا وعَملاً لدَعم ثقافة الحِوار والتّسامح الثّقافي والإنساني، وأكثرها نشاطًا واستقلاليّة في الأُمم المتحدة.
هذا القرار بالانسحاب ليس غريبًا عن إدارة أمريكيّة يَتزعّمها الرئيس دونالد ترامب الذي أظهر كراهيّةً عُنصريّةً ضِد المُسلمين والأمريكيين من أصولٍ لاتينيّة وأفريقيّة، وانحاز بالكامل لليمين العُنصري الأمريكي.
لن يُرهب هذا الابتزاز الوَقح الدّول الأعضاء في مُنظّمة اليونسكو، ولن يُبرئ إسرائيل من جرائم الحَرب، ومُمارساتها العُنصريّة في الأراضي العربيّة المُحتلّة، كما أنّه يَفضح الوَجه الأمريكي العُنصري المُنحاز للاحتلال الإسرائيلي وجرائمه في تَهويد المدينة المُقدّسة، ومُحاولة تَدمير كنائسها ومَساجدها العربيّة والإسلاميّة، فأمريكا انسحبت من المُنظّمة وجَمّدت مُساعداتها في زَمن الرئيس السنغالي مختار امبو، وبقيت “اليونسكو” رافعةً رأسها عاليًا في وَجه الغَطرسة الأمريكيّة، وازدادت قُوّةً واستقلالاً.
***
فلتَنسحب إسرائيل العُنصريّة من اليونسكو، ولتَلحق بزعيمة العُنصريّة والقَتل والدّمار في العالم الولايات المتحدة، ولا أسف عَليهما، ونحن على ثقةٍ بأن وَضع المُنظّمة ومُستقبلها سيكون أفضل كثيرًا في ظِل غِيابهما، فَقد كانا مِثل الضّرس المُلتهب والمُتعفّن بين أسنانها القويّة الصّلبة.
علينا كَعرب، أن نَقف وقفةَ شهامةٍ ورجولةٍ وشجاعةٍ إلى جانب هذهِ المُنظّمة، وأن نَضع خِلافاتنا الصّغيرة المُخجلة جانبًا، وأن نُقدم على سَد جَميع عُجوزاتها الماليّة مَهما كَبُرَت وتَضخّمت بفِعل الانسحاب الأمريكي، خاصّةً أن بَعض حُكوماتنا تُنفق مِئات المِليارات في صَفقات أسلحةٍ تَذهب نِصف قيمتها في عُمولاتِ الفَساد للسّماسرة العَرب وغير العَرب.
ما تَحتاجه هذهِ المُنظّمة لسَد عُجوزاتها لا يَزيد عن ثَمن بِضعة طائراتٍ حربيّةٍ، ومَجموعة صواريخ باتريوت التي تُكلّف الواحدة مِنها ثلاثة ملايين دولار، وتُستخدم في إسقاط طائرة مُسيّرة بدون طيّار لا يزيد ثَمنها عن 300 دولار في اليَمن وغَيرها.
أمريكا وإسرائيل تَنسحبان من مُنظّمةٍ أكّدت على عُروبة وإسلاميّة القُدس، وعَدم شرعيّة احتلالها، والسيادة الإسرائيليّة عليها، ألا تَستحق هذهِ المُنظّمة دَعمًا عربيًّا وإسلاميًّا سَخيًّا، ووَقفةً تضامنيّةً شُجاعةً ورجوليّة؟ نَترك الإجابة لكم وللقادة الذين يَقولون أنهم عرب ومُسلمون، ويَعتبرون القُدس المُحتلّة أولى القِبلتين، وأقصاها ثالث الحَرمين.
عبد الباري عطوان