مؤتمر مدريد الذي انطلق بتاريخ 30/10/1991 مضى عليه حتى الآن 26 عاما, ولم يصل إلى استعادة حقوق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان حزيران 1967م وضمان عودة اللاجئين إلى ديارهم.
حيث تناوب منذ انطلاق العملية التفاوضية بالبيت الأبيض وحتى الآن، 5 رؤساء أمريكيين هم (بوش الأب – كلينتون – بوش الابن – أوباما وأخيراً وليس آخراً ترامب)، إلا أن كافة سياسات الإدارات الامريكية الخمس انتهت بالفشل بتنفيذ الوعود بحل الصراع الفلسطيني والإسرائيلي وتطيق قرارات الشرعية الدولية وإقامة سلام متوازن.
إن الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب، تغض النظر كسابقاتها من الإدارات عن مواصلة الاستيطان فيما دولة الاحتلال تطرح سلسلة جديدة من مشاريع الاستيطان الكبرى والتي تطال مدينة القدس المحتلة وأنحاء مختلفة من الضفة الفلسطينية وهي ستشكل عنصراً فعالاً في رسم النتائج المسبقة لأي عملية سياسية تفاوضية، وما يطرحه يوسي بيلين "أبرز مهندس اتفاق أوسلو حالياً (كونفدرالية فلسطينية وإسرائيلية) أو أردنية" والذي سنأتي عليه لاحقاً، سيشكل بالضرورة عنصراً فعالاً في رسم النتائج المسبقة لأي عملية تفاوضية وستؤدي إلى ابتلاع الاستيطان لمساحات إضافية من الأرض المحتلة، في ظل تأييد أمريكي معلن وفي ظل انتهاك فظ لقرارات الشرعية الدولية.
الإدارة الأمريكية تعمل حالياً لتهيئة المسرح السياسي لاستئناف العملية التفاوضية بتماهي مع الموقف الإسرائيلي ودعمه، وتضغط على الجانب الفلسطيني للقبول بسلسلة الشروط الإسرائيلية في سياق العملية التفاوضية، كما كانت تغرق فيها العملية التفاوضية في جولات ماراثونية بديلاً عن بحث قضايا الاحتلال ورحيله، والاستيطان وتفكيكه، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وآليات قيام مؤسساتها المستقلة.
لكن ما يزيد من خطورة الموقف الأمريكي حالياً قضايا جديدة تتدرج تحت عنوان "الحل الإقليمي" وإشارات عن الكونفدرالية مع الأردن والبدء بتطبيع العلاقات العربية - الإسرائيلية، واستحالة الوقف الكامل للاستيطان وضرورة وقف التحريض ضد إسرائيل لصالح الإرهاب ووقف صرف رواتب عائلات الشهداء والأسرى. فالإدارة الأمريكية الحالية تعتبر رعاية م.ت.ف لعائلات الشهداء والأسرى هو حثاً على الإرهاب وان النضال الوطني الفلسطيني إرهاباً ويتطلب إعادة صياغة الخطاب السياسي الفلسطيني ليتبنى مفاهيم وقيم المشروع الصهيوني.
إن ما يطلق عليه الحل الإقليمي أو الكونفدرالية مع الأردن أو الكونفدرالية الفلسطينية – الإسرائيلية وجميع هذه الأطروحات هي توصيات من متطرفي معهد واشنطن للشرق الأدنى (روس وماكوفسكي) ، أو اليوم الدراسي المغلق الذي جرى مؤخراً في معهد بحوث الأمن القومي في تل أبيب. وكل ذلك يهدف للوصول إلى ما يطرحه ترامب أو ما أطلق عليه "صفقة القرن" تعود إلى حل شامل للصراع العربي – الإسرائيلي وتطبيع العلاقات بين العرب وإسرائيل قبل أن تقدم إسرائيل على الانسحاب من أراضي فلسطينية وعربية (وليس الأراضي الفلسطينية العربية التي احتلتها بعدوان 67)، أي إعادة رسم المعادلات والخرائط في المنطقة.
إن مهندس اتفاق أوسلو يوسي بيلين في اليوم الدراسي المغلق بمركز بحوث الأمن القومي بتل أبيب يقول أن فكرة الكونفدرالية الإسرائيلية – الفلسطينية يجب أن تكون جزءاً من الأمن السياسي على المدى البعيد، ولقد شارك في هذا النقاش مسئولون سابقون في جيش الاحتلال وأكاديميون ومعاهد أبحاث وباحثان سويسريان مختصان في مواضيع الفيدرالية والكونفدرالية وأيضاً شارك في هذا النقاش شخصية أكاديمية رفيعة من الجانب الفلسطيني. وعرض الخبراء السويسريون قصة تحول بلادهم من كونفدرالية إطار مشترك لبلدان مختلفة إلى اتحاد تقوده حكومة مركزية ضعيفة ولا يحصل إلا على ربع ضرائب المواطنين في حين إن الكانتونات الـــ 26 تحصل على معظم الميزانية وصلاحيات واسعة جداً، لقد ولد النظام السويسري الحالي بعد انتهاء الحرب عام 1848م.
وحسب حديث الخبراء السويسريون يقولون أن هذه الحل الفريد منع استمرار الصراع الديني الذي عصف بالبلدان التي شكلت سويسرا، وهناك مسألة أخرى قد تكون ذات صلة بنا، ربع المواطنين السويسريين ليسوا مواطنين وهم مواطنون في بلدانهم الأصلية من جيل إلى آخر.
إن ما طرح في جلسة النقاش يتحدث عن بقاء المستوطنين بالضفة المحتلة كمواطنين إسرائيليين يقيمون في الدولة الفلسطينية مع بقاء الأراضي التي جرى مصادرتها بيدهم، إن هذا لا يمكن من قيام الدولة الفلسطينية بل يؤدي إلى تحويلها إلى كانتونات ممزقة والسيطرة عليها هي لسلطات الاحتلال. وفي حلقة النقاش هذه الأخطر أيضاً طرح البعض أن تشمل الكونفدرالية الأردن وهذا يتماهى مع ما يطرح من أفكار من قبل إدارة الرئيس الأمريكي ترامب.
إن الإدارة الأمريكية تمارس سياسة الانحياز الكامل لصالح الاحتلال الإسرائيلي عبر تبنيها شروطه المسبقة كاملة وتقديمها على أنها شروط أمريكية خالصة، وسحب قضية الاستيطان من التداول كعقبة أمام استئناف المفاوضات، في ظل ضعف السلطة والأزمة الاقتصادية التي تعصف بها والقروض المتواصلة التي فاقت 3 مليارات دولار من الجهات المانحة وفي ظل التبعية للاقتصاد الإسرائيلي وغياب البرنامج الوطني الموحد.
إن ما يزيد من فعالية هذه الإجراءات وقدرتها على الضغط على القيادة المتنفذة في م.ت.ف والسلطة، إنها شهدت تحولات اجتماعية طبقية خلال ربع قرن من الزمن في نظام سياسي فريد من نوعه، مقيد باتفاقات اذعان راكمت خلالها الشرائح البيروقراطية العليا، بتداخلها مع فئات من رجال المال والأعمال مصالح سياسية واقتصادية ونفوذاً اجتماعياً جعل منها أسيرة للحالة القائمة ترى مصالحها في الحفاظ على استقرارها السياسي والأمني وعلى تلبية الشروط التي تضمن موقعها في إطار المعادلة السياسية الإقليمية، كما ترسمها الدوائر المقررة في واشنطن وتل أبيب مع بعض العواصم العربية. ولا غرابة من إصرار قيادة السلطة على تأكيد مبدأ الشراكة مع الإدارة الأمريكية الحالية في العمل على إحياء عملية السلام ورفضها لتحويل القضية إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة والمنظمات الدولية على طريق عقد مؤتمر دولي لحل المشكلة الفلسطينية.
إن سياسة السلطة والفريق المتنفذ في م.ت.ف يقود بكل تأكيد إلى الافتراق التدريجي عن المزاج السياسي العام في الحالة الفلسطينية. وهذا ما يلمس في استطلاعات الرأي والتحركات الشعبية الفصائلية المطالبة بوقف التنسيق الأمني، ومقاطعة الاقتصاد الإسرائيلي، وإعادة صياغة جديدة مع دولة الاحتلال تعتبر كإستراتيجية بديلة منها تبني النضال بكل أشكاله وفي المقدمة منه الكفاح المسلح الذي يؤلم المستوطنين وجيش الاحتلال ويلحق الخسائر بهم ليجعل احتلالهم للضفة المحتلة والقدس مكلف ما يجعلهم يفكرون بالرحيل، وأيضاً مطلوب الدفاع عن المصالح الاجتماعية للفئات المتضررة من سياسات السلطة التي تتماهى من سياسة الاحتلال والاستيطان.
من الواضح أن سياسة القيادة المتنفذة في م.ت.ف والسلطة أدت إلى إضعاف وتدهور حالة الشراكة الوطنية الفلسطينية، وعرضت الأسس السياسية لوحدة الصف الوطني، ومبادئ الائتلاف الوطني في إطار م.ت.ف، باعتبارها الجبهة الوطنية المتحدة إلى خطر الخلخلة، بما في ذلك الذهاب بعيداً في سياسة التفرد باتخاذ القرار السياسي، والعمل على تهميش مؤسسات م.ت.ف وتعطيل قراراتها الإستراتيجية، والتمسك بالتزامات أوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي، على حساب الالتزام بالبرنامج الوطني الفلسطيني، كما ظهرته في 26/6/2006 وثيقة الوفاق الوطني، وكما صاغ قراراته العملية وآليات تطبيقه المجلس المركزي الفلسطيني في دورة آذار "مارس" 2015 وقرارات الإجماع الوطني، واللجنة التحضيرية للمجلس الوطني في 10-11/1/2017 بتشكيل حكومة وحدة وطنية لإنهاء الانقسام والذهاب إلى انتخابات رئاسية وتشريعية ومجلس وطني توحيدي جديد في الوطن والشتات وفق قانون التمثيل النسبي الكامل.
إن سياسة أوسلو لا توفر الغطاء السياسي الوطني للقرار السياسي الفلسطيني، وتشوه مشهد الحالة الفلسطينية أمام الآخرين، بما في ذلك تجريدها من كل المظاهر والعناصر الخاصة بها كحركة تحرر وطني لشعب يناضل لإنهاء الاحتلال، وكجزء لا يتجزأ من حركة التحرر الوطني العربية وحركة الشعوب المناضلة ضد سياسات الامبريالية الأمريكية واستعمار التوسع الإسرائيلي في القدس والضفة إلى جانب حصار قطاع غزة.
بقلم/ زياد جرغون