أن تُطلق مَنظومات الدّفاع الجوّي السوريّة صاروخًا باتجاه طائراتٍ حربيّةٍ إسرائيليّةٍ، كانت في مُهمّةٍ استطلاعيّةٍ في الأجواء اللبنانيّة، وليس السوريّة، وتُصيب إحداها حَسب بيان الجيش السوري، وتُجبر الأُخريات على الهُروب، فهذا تطوّرٌ مُهِمٌّ وغَير مَسبوق، يَعكس احتمال وجود استراتيجيّة عَسكريّة جديدة بالتصدّي لأيِّ انتهاكاتٍ للأجواء اللبنانيّة والسوريّة معًا.
صحيح أن بيانًا إسرائيليًّا أكّد أن طائرات حَربيّة ردّت بقَصف البطاريات الدفاعيّة السوريّة نَفسها في مَوقعٍ عَسكري شرق دمشق، ولكن الرّد السّوري غير المُتوقع أربك القيادتين السياسيّة والعسكريّة الإسرائيليّتين، ودَفعهما إلى التأكيد بأنّهما لا يُريدان التّصعيد ويُفضّلان التهدئة، وسُبحان مُغيّر الأحوال.. متى كانت إسرائيل تُريد التهدئة؟
بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي لم يُعلّق مُطلقًا ولا المُتحدّثين باسمه، على غاراتٍ إسرائيليّة سابقة في العُمق السّوري، عَكس القَلق الإسرائيلي من هذا الرّد السوري المُفاجِئ، عندما هدّد “بضَرب كُل من يُحاول الهُجوم على إسرائيل وتهديد أمنها”، وأكّد “ان إسرائيل ستُواصل العَمل وِفق الحاجة في هذا المُحيط من أجل حِماية أمنها”، وتَولّيه مُهمّة التهديد هذه، والقِيام بها بنفسه، وليس عَبر وزير حَربه، فالهَدف من ذلك طَمأنة مُستوطنيه، وتَبديد مَخاوفهم.
***
رسالة هذا الصّاروخ السّوري إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي واضحة، تقول مُفرداتها أن الزّمن الذي كانت تتجوّل فيه الطائرات الإسرائيليّة في الأجواء اللبنانيّة، وتُصوّر ما تشاء من الأهداف الأرضيّة دون أن يَعترضها أحد قد أوشك على الانقراض، وأن الأجواء اللبنانيّة باتت امتدادًا لنظيراتها السوريّة، وأيّ اختراقٍ لها سيَتم التصدّي له مهما كانت النّتائج.
هذا التحرّش الإسرائيلي، والرّد السّوري الفَوري عليه، يَعكس قلق القيادة العسكريّة الإسرائيليّة، ورَغبتها في اختبار القُدرات الدفاعيّة السوريّة، وما إذا كانت تتضمّن صواريخ مُتطوّرة من طراز “إس 400″ أم لا، مِثلما يَعكس هذا الرّد السّوري، في الوَقت نَفسه، ثقةً مُتزايدةً في أوساط القيادة السوريّة بفِعل الانتصارات الميدانيّة الكبيرة التي حقّقتها قوّات جَيشها وحُلفاؤها في ميادين القِتال، واستعادة حوالي 90 بالمئة من الأراضي السوريّة، إن لم يَكن أكثر.
إسرائيل تَعيشُ حالةً من الرّعب بسبب هَزيمتها وحُلفائها في سورية، والتّجربة القتاليّة الهائلة التي اكتسبها الجيش العربي السوري وذِراعه اللّبناني المُتمثّل في “حزب الله”، وكان أوضح من عَبّر عن حالة الرّعب والقَلق هذهِ أفيغدور ليبرمان، وزير الحرب الإسرائيلي، في حديثه لموقع “واللا” الإخباري قبل أُسبوعين، واعترف فيه “أن الأسد انتصر في الحَرب”، مُشيرًا إلى “طابور من دُول العالم، والسنيّة المُعتدلة خاصّةً، باتت تَطلب ودّه (أي الأسد)”.
لا يُمكن أخذ هذا التصعيد الإسرائيلي، والرّد السوري عليه، بمَعزلٍ عن الاستراتيجيّة الأمريكيّة التحريضيّة ضد إيران التي عَبّر عنها الرئيس دونالد ترامب في خِطابه قَبل بِضعة أيّام، وأعلن فيه عن عدم مُصادقته على الاتفاق النووي الإيراني، وفَرض عُقوباتٍ على الحرس الثوري، واتهام السّلطات الإيرانيّة بدعم الإرهاب، وزعزعة استقرار الشرق الأوسط، وحُلفاء واشنطن فيها.
إنّها إرهاصات التّسخين لحَربٍ باتت وشيكة، حَذّر منها السيد حسن نصر الله، زعيم “حزب الله”، واتّهم نتنياهو بالإعداد لها، فأكثر ما يُقلق رئيس الوزراء الإسرائيلي تعافي سورية، واستعادة العراق لقوّته، والتّواصل الإقليمي بين إيران ولبنان عبر الأراضي السوريّة والعراقيّة، وكذلك وجود قوّات لحزب الله مَدعومةً بمُستشارين إيرانيين في القنيطرة ودرعا، وبما يُعطيها القواعد التي يُمكن استخدامها في فَتح جبهة الجولان، وإطلاق صواريخ على أهدافٍ إسرائيليّةٍ في عُمق فِلسطين المُحتلّة.
التّواصل الجُغرافي، وامتداد الحِزام الإيراني من مَزار شريف في أفغانستان إلى الضاحية الجنوبيّة في بيروت على شواطِئ المُتوسّط، يعني تزويد “حزب الله” وبأقصى سُرعةٍ مُمكنةٍ بكميّاتٍ ضَخمةٍ من الأسلحة والصواريخ والذخائر والمُعدّات الثقيلة المُتطوّرة.
***
المَنطقة تتغيّر، لأن سورية تتغيّر وتَستعيد قِواها بشكلٍ مُتسارعٍ، وبدعمٍ إيراني روسي، وهذا ما تُدركه كل من واشنطن وتل أبيب، ويَرفع ضغط قيادتيهما بشقّيها السياسي والعَسكري.
اليوم تُطلق الدّفاعات الجويّة السوريّة صاروخًا من طِراز “إس أي 5″ باتجاه الطائرات الإسرائيليّة المُغيرة، وتُجبرها على الهَرب خَوفًا، ولن نَستعبد أن يكون الصّاروخ القادم من طراز “إس 400″ الرّوسي المُتطوّر جدًّا، لأن سورية تُدافع عن نفسها وسيادة أجوائها وأراضيها، وبضُوءٍ أخضر روسي.
السيد حسن نصر الله، وفي خِطابه الأخير تنبّأ بالحَرب، وحَمّل نتنياهو مَسؤولية إشعالها، وطالب اليهود مُغادرة فِلسطين المُحتلّة، والعَودة إلى البلاد التي جاءوا منها، لأنّهم سيكونون وقودها، وربّما لن يَجدوا الوَقت والفُرصة للنّجاة بجِلدهم، في حال اشتعالها من قِبل نتنياهو المَأزوم، وكأنّه يُذّكر بمِئة ألف صاروخ في تَرسانته، وأربعة أضعافها في التّرسانتين السوريّة والإيرانيّة.
الحَرب المُقبلة، لن تَكون كغَيرها من الحُروب السّابقة، فهُناك عَربٌ ومُسلمون باتوا يَملكون القُدرة على الرّدع والصّمود، وجَرّبتهم إسرائيل في ثلاثِ حُروبٍ على الأقل، ولم تَربح أي منها، لأن خَصمها لم يَكن نظامًا عربيًّا فاسدًا يَضع كُل بَيضه في سَلّة أمريكا المَثقوبة.
إجاك من يعرفك يا بلوط.. وفَهمُكم كِفاية.
عبد الباري عطوان