في غزة الآن تنتفض العقول وتنشغل في ترتيب أولوياتها بعد مرحلة الضياع، قليل منهم من يعرف ماذا يفعل لإستعادة الحياة الطبيعية والإستقرار بعد عشر سنوات من الغربة في وطنهم وبيتهم وشارعهم ورحلة ضياع وتيه وإضطراب في مناحي حياتهم وعلاقات غريبة وغربة عن الإصول وتراجع الإنجازات وعدم اليقين من الخطوات والحركة الحرة كباقي البشر ..
نعم كنا في الكهف بعد أن تغيرت الثقافة جبرا لا رغبة، تغير كبيرنا وصغيرنا، تغيرت المرأة، وتغير الرجل، وتغير المسؤول، والحاكم والشرطي ورجل الأمن وتغيرت المؤسسات وتغيرت المطاعم وحتى المساجد ودور العبادة، تغيرنا.
تغير كل شيء في غزة عما كان ووصل لحد أننا لا نعرف أنفسنا وكما يعرف إخواننا الأسرى كيف تتقلص الحرية وتصغر البرامج حين تصغر الحركة في الحيز المسموح جسمانيا وعقليا وتكبر عصا السجان ..
في غزة سجن الإنقسام الكبير كان بنا ما كان بهؤلاء الأسرى رغم شموخ فكرتنا وفكرتهم وإحساس البطولة الذي يعانق السماء بحالنا وحالهم .... كان بنا كما كان بهم من إنكسار مقابل هذا الشموخ العالي حين النزاع كان يصغر أحيانا لحجم سيجارة أو عدد السجائر وقرن الفلفل ومكان البرش الضيق وأشباه ذلك من حيثيات السجن ، لكنه الإحتياج في الحيز المحدود وندرة الموارد ..
نعم كنا نحن كذلك في سجن الإنقسام حين أصبحت أشياء بسيطة تزداد قيمتها وتشكل برنامج حياتنا الذي كان يصغر رويدا رويدا وضغوطاتنا وأمراضنا النفسية في المقابل تتسع وتكبر ..
كان من المعجزة الحصول على وظيفة أو علي عمل وكان الصراع على الفرصة عملا رهيبا لمن ليس لهم أمير مسجد أو مسئول رباني وتحتاج كل الأدوات الإنتهازية غير الشهادة والكفاءة والبحث عن شريان حياة لمن يظفر بعمل في غابة سجن الإنقسام فكانت تستخدم كل الأدوات المعقولة وغير المعقولة الأخلاقية وغير الأخلاقية وصغر برنامج العباد ليسطيعوا الإستمرار أحياء في زمن القحط والضياع.
في العامين الأخيرين والأشهر الأخيرة تصاعدت حالة من التآكل الذاتي وكم من أخ أكل أخيه أوصديقه أو حتى ولده ليواصل الحياة....
كنا نرى الناس يهدمون سورا أو حائطا أو أي شيء مهجور أو غير مهجور وحتى رصيف كورنيش البحر ليجمعون منه نقلة كارة من الطوب المكسور والخرسانة المهشمة كما النفسيات المهشمة لإستخلاص الحصمي منها للحصول على شواكل قليلة تغيث أطفال وأبناء فقراء ومعدومين ومعووزين وما أكثرهم دون أدنى قدرة أو إحساس لدينا بالمسئولية في أن نلومهم أو نمنعهم فلو منعتهم سيموتون جوعا ..
نعم في سجن الإنقسام كان الشاب الذي يحمل الماجستير يسجد سيجارة أو شيكلا ويكبت الغرائز فهو غير قادر على الزواج ولا يجد من يشغله أو يطعمه بكرامة ، كل شيء فينا ومنا ومعنا يأكل بعضه بعضا وأحيانا من لحمه الحي وتغير الناس كثيرا فهم الآن ليسوا السابقين ويحتاجون كثيرا من الوقت لإستعادة الحياة والكرامة فقد إنتهكت الكرامات بأفعال سياسية وغير سياسية إنها الحاجة والإبتزاز وإستغلال الظروف في كل مناحي الحياة ليس من الحاكم فقط بل أيضا من المحكوم للمحكوم، ألم أقل لكم لقد تغيرنا جذريا في كل شيء !!
تغيرت المفاهيم والثقافة والعادات والتقاليد ورنات الجوال ولباس البحر ولباس الفرح وأعراس الفرح ومآتم الميتين وانكمشت العلاقات حتى الأسرية وكما يقول المسؤولون والسياسيون والمثقفون لشعبنا المستعجل على الإنجازات إصبر قليلا بعد إتفاق المصالحة فالأولى بهؤلاء النخب والقادة والمتنفذين أن يصبروا هم علي شعبنا ليستعيد أنفاسه المقطوعة وكرامته الضائعة وحاجته الملحة ليتنفس الهواء فهو في السجن عشر سنوات قد نسي عملية الحركة والسير والتفكير والراحة والإبتسام التي عاش بها المسؤولين.
عوضوهم بالوظيفة وفرصة العمل والخدمة الصحية وإعدلوا هذه المرة ولاتعودوا كما كنتم فالشعب في غزة كله مظلوم ووظفوا في كل بيت موظف جديد حتى لا تضيق البلاد على أهلها ويهاجرون .. كبروا حجم الأمل لهذا الشعب في الحياة الحرة الكريمة فأنتم تحت الإختبار وليس حماس فحماس قد تركت الجمل بما حمل ، ولا نريدهم في حكمنا مرة ثانية، فهل أنتم فاعلون؟
لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْلِهَا ... ولكنَّ أَخلاقَ الرِّجالِ تَضيقُ
بقلم/ د. طلال الشريف