بعد إقرارها بالذنب هل تعتذر بريطانيا عن وعد بلفور..؟!

بقلم: علي هويدي

نتوقف في هذه المقالة عند محطة هامة في تاريخ السياسة الخارجية البريطانية عبّر عنها وزير الخارجية الأسبق في الحكومة العمالية البريطانية اليهودي جاك سترو؛ فقد نقل الإعلام البريطاني وغير البريطاني نص المقابلة الصحفية التي أجرتها مجلة نيوستيتسمان (Newstatesman) مع جاك سترو بتاريخ 16/11/2002، جاء فيها بأن "وعد بلفور والضمانات المتناقضة التي مُنحت للفلسطينيين سراً، في الوقت نفسه الذي أعطيت فيه للإسرائيليين، تشكل مرة أخرى حدثاً مهماً بالنسبة إلينا.. لكنه ليس مشرفاً كثيراً" مضيفاً، "لم ننصف الفلسطينيين في وعد بلفور".

وكتبت صحيفة السفير اللبنانية بنفس تاريخ 16/11/2002: "أقرت بريطانيا بذنب، لم تعترف، لم تعتذر، خطوة متقدمة لكنها متأخرة أكثر من نصف قرن، فقد أقر وزير الخارجية البريطاني جاك سترو أخيراً في حديث أثار لغطاً كبيراً في بريطانيا، بأن معظم المشكلات التي تعاني منها منطقة الشرق الأوسط وآسيا ناجمة، عن ماضينا الإستعماري غير المشرِّف". ‏

وبعد مرور 100 عام على الوعد المشؤوم والذي يوافق في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 2017 ومرور 15 سنة على تصريحات سترو، متغيرات عالمية مهمة تحصل منذ مطلع العشرية الثانية من القرن الحالي فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ودولياً سيكون لها بعد إنقشاع الغبار تأثيرات مباشرة على إعادة رسم وتشكيل خريطة المنطقة على المستوى الديموغرافي والجيوسياسي، لا سيما على مستوى تقرير الشعوب لمصيرها وفقاً للمادة الأولى من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بأن "لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها.. وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي.. وحرة في السعي لتحقيق نمائها الإقتصادي والإجتماعي والثقافي"، هذا يحتِّم الإقرار البريطاني بعدم شرعية وعد بلفور، وبأن بريطانيا بإنتدابها على فلسطين خالفت أسس ومبادئ القانون الدولي بممارسة دورها وتهيئة الشعب الفلسطيني الواقع تحت الإنتداب لحق تقرير مصيره وبالتالي المطلوب الإعتذار عن الظلم الذي سببته ولا تزال للشعب الفلسطيني، والتوقف فوراً عن تقديم كافة أشكال الدعم للإحتلال سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً وإقتصادياً..، والإعتذار ليس فقط للفلسطينيين وإنما كذلك للعرب وللمسلمين وللإنسانية جمعاء..

ثورة الإعلام المفتوح والجهد الذي يبذل حول العالم وفي أروقة الأمم المتحدة من قبل منظمات المجتمع المدني والقوى السياسية الفلسطينية وغير الفلسطينية ساهم وإلى حد كبير ببطلان التفرد بالرواية المزيفة التي ينسجها الكيان الصهيوني وحلفائه حول فلسطين متناولاً التاريخ والجغرافيا والحضارة والثقافة والتراث والأدب..، في محاولة لغسل الأدمغة بأن فلسطين كانت أرضاً بلا شعب إستحقها "شعب" بلا أرض، أو أحقية وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. في المقابل تتزايد المؤشرات بأن دولة الإحتلال في المدى الإستراتيجي إلى المزيد من حالة العزلة الدولية وهي على طريق نزع الشرعية والشواهد كثيرة، وبهذا المعنى يستشعر الكثير من دول العالم بأن لا مستقبل للكيان الإسرائيلي في منطقتنا العربية وهي الشاذة عن السياق الطبيعي للدول فهي على الأقل الدولة المغتصِبة لأرض الغير وتمارس التطهير العرقي بحق سكانها الأصلييين منذ حوالي 7 عقود وطردت 935 ألف فلسطيني تحولوا إلى لاجئين، وتنتهك حقوق الإنسان الفلسطيني جهاراً نهارا، وهذا ما يُمكن أن يعطي دفعاً سياسياً للحكومة البريطانية للسير في خطى الإعتذار ورد الإعتبار واستعادت الحقوق التي سلبت من الشعب الفلسطيني على مدار قرن من الزمن.

ما قام به السيد سترو من الإقرار بالذنب سبقه خطوة متقدمة قامت بها الحكومة البريطانية كمحاولة للتخلص من الفكر الإستعماري للدول، ففي العام 1963 اعتذرت من قبائل الماو ماو في كينيا في إفريقيا على ما ارتكبته من مجازر، وكان لتلك القبائل حكماً ذاتياً، وفي شباط من العام 2013، زار رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون الهند واعتبر أن المجزرة التي ارتكبها الجنود البريطانيون بالهنود إبان إستعمار بريطانيا للهند في العام 1919 "وصمة عار في جبين بريطانيا"، صحيح أن الرجل لم يعتذر لكنه أقر بالذنب، وهذا مؤشر مهم في السياسة البريطانية، بينما رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي تفاخر بدور بلادها في قيام "إسرائيل" موجهة الدعوة لنتنياهو لحضور "إحياء الذكرى" في محاولة بائسة لإرضاء الكيان الاسرائيلي، إذ تعتقد ماي بأن هذا سيساهم في حل مشكلاتها داخل حزبها المحافظين وقلقها من إطاحتها.

لن تعتذر الحكومة البريطانية برضاها، بل عندما تصبح كلفة عدم الإعتذار أكبر بكثير من الإعتذار، لذلك الحملات الشعبية والدبلوماسية والقانونية والحقوقية والسياسية.. التي انطلقت حول العالم وتطالب الحكومة البريطانية بالإعتذار عن الوعد المشؤوم لن تتراجع أو تتوقف فهي غير متربطة برقم يساوي مرور عدد سنوات الوعد على أهميته، بل باتت تلك الحملات تمثل حالة من التغيير المفصلي في تاريخ الإنسانية، وهذا حتماً لن يتوقف.

بقلم/ علي هويدي