“اليونسكو“ ما بين الثقافة والسياسة وعنجهية “ترامب ونتنياهو“

بقلم: الأسير كميل أبو حنيش

ثمة فارق كبير بين عالم الثقافة وعالم السياسة؛ فعالم الثقافة كما نعرفه المد الجذري للعلاقات البشرية وما تنطوي عليها هذه العلاقات من معاني إنسانية وأخلاقية وعدالة ومحبة وخير وفن وجمال وقيم، وكل هذه العناصر مجتمعة من حيث الجوهر تلتقي بها الأمم والشعوب، وتُشّكل الثقافة وعناصرها معياراً لإنسانية الإنسان وأخلاقيته في كل زمان ومكان؛ فهي تنتمي لعالم الإنسان الذي يبحث عن المعاني التي تؤمن بقيم  الحرية والعدالة والمساواة، ويُعبّر عنها من خلال الفلسفة والموسيقى والشعر والأدب والفنون والرياضة والدين.

وهذه التعبيرات والقيم لا يمكن أن يكون لها هوية طائفية أو عرقية أو جنسية أو جغرافية وإنما لها هوية إنسانية حتى وإن ارتدت طابعاً ذا علاقة بهوية محددة.

 أما عالم السياسة ومع كل الأسف لا يُعبر إلا عن المصالح وينطوي على كل ما هو سلبي في العلاقات البشرية، فهو يمتهن تدوير الزوايا وتركيع الدوائر ولي أعناق الحقائق، عالم غارق بالتسويات والمباحثات والأكاذيب والتضليل وشرائع الغاب والمجاملات والعنجهيات وعلاقات الضرورة وفن الممكن،  عالم الميكافيلية والدروينية والنتشاوية.

وعالم الثقافة هو عالم سقراط ولاوتسي وزرادشت ومحمد ويسوع، وهو عالم ماركس وجيفارا وغاندي ومانديلا وغرامشي وادوارد سعيد وتشومسكي ومارثن لوثر كينج وبيتهوفن وموزارت ودافنشي وابن رشد وابن عربي والحلاج والخيام وطاغور ولوكا والمعري، أما عالم السياسة هو عالم نيرون وجنكيز خان وهولاكو والحجاج ونابليون وهتلر وموسليني وتشرشل وواشنطن وروزفلت وترامب، هو عالم "هرتزل وبن غوريون وشارون ونتنياهو" وقادة الأنظمة العربية الرجعية الدكتاتورية وسائر الطغاة والاستبداديين في التاريخ.

وليس المقصود من هذا الفصل ما بين السياسة والثقافة أن يكون فصلاً ميكانيكياً وثابتاً، وانما ينبغي التنبيه إلى أننا نؤمن ويجب أن نؤمن أن السياسة والثقافة  ينبغي أن تتمازجان وأن على السياسي أن يتحلى بثقافة إنسانية؛ بمعنى آخر ينبغي للسياسة أن تخضع للثقافة وليس العكس، وإذا حدث وأن أصبحت الثقافة خاضعة للسياسة فإن البشرية سيكون مصيرها قاسياً ومريراً وعندها سُتّولد لنا كل الثقافات المزورة كالثقافة النازية والفاشية والصهيونية والداعشية وسائر الثقافات العنصرية التي عرفها التاريخ.

 لقد جرى تشييد منظمة اليونسكو لتمثل الإرث الثقافي الإنساني ولتكون حارس للتراث والثقافة الإنسانية بسماتها العالمية ولتعكس الوجه المشرق للثقافة البشرية بكل ما تنطوي عليه النزاهة والشفافية والمصداقية. وهذه المنظمة التي قاومت خلال عقود من تأسيسها كل محاولات التسييس والابتزاز وتزوير الحقائق والإخضاع لسياسات الدول الكبرى ونزوات بعض القادة المتحجرين، وحاولت أن تنأى بنفسها عن محاولات شراء الذمم والضغوط السياسية، وكي تظل قلعة حصينة من الاختراق والإفساد.

وهذه المنظمة عندما تنصف الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لمذبحة وجودية وسياسية وثقافية طوال أكثر من قرن على أيدي الصهاينة إنما تنحاز للحق والحقيقة والعدل والإنصاف والموضوعية في حماية التاريخ والتراث أمام محاولات الطمس والتزوير؛ فهذه المنظمة عندما أقرت أن المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي هما تراث ثقافي عربي إسلامي إنما انحازت للحق ولم تجافي الحقيقة، ولم ترضخ للابتزازات والضغوط من جانب الولايات المتحدة و"إسرائيل" اللتين أرادتا من هذه المنظمة أن تكون شاهد زور وأن تمارس الأكاذيب والتضليل.

 وعندما فشلت ضغوط أمريكا و"إسرائيل" على المنظمة شنت هاتين الدولتين جام غضبهما عليها وجرى وصم المنظمة بكل الصفات القبيحة ليصل الأمر للولايات المتحدة بأن تهدد بالخروج من المنظمة ما لم تغير سياستها وحذت "إسرائيل" حذوها بالتلويح بالخروج من المنظمة ما لم تخضع لشروطها وتتبنى أكاذيبها.

يتعين علينا أن لا نستغرب هذا الهجوم السافر على هذه المنظمة وبالتالي على عالم الثقافة؛ فالولايات المتحدة صاحبة التاريخ العريق بالإبادات الجماعية والحروب، وهذه الدولة التي قامت على جماجم عشرات الملايين من الهنود الحمر والعبودية واحتلال البلدان وتدمير الشعوب وإفقارها وامتصاص خيراتها، هذه الدولة التي ألقت بقنابلها النووية على هيروشيما وناجازاكي، والتي دمرت التراث الثقافي والتاريخي للعراق، فهل يمكن لهذه الدولة أن تكون حارس للثقافة العالمية! وماذا نتوقع من ترامب وهو الذي يتعرض لهجوم من كافة المثقفين والأدباء والشعراء والرياضيين في الولايات المتحدة نفسها؛ فهو الذي يفتح النار على كل ما هو جميل في العالم والذي أدخل العالم بمزيد من الحروب بين الأمم والشعوب.

 أما "إسرائيل" التي قامت على أنقاض الشعب الفلسطيني والمدججة بأيديولوجيات عدوانية، والتي تتأسس على أساطير خرافية، وهذه الدولة التي تُعلم تلامذتها في المدارس الكراهية والعدوانية وثقافة الحرب والعنصرية لا يمكن لها أن تقبل ما أقرته مؤسسة اليونسكو.

هل يمكننا أن نتصور أن " نتنياهو" ينتقد شعراء وأدباء وفنانين، حتى وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميري ريغن منبوذة وغير مرحب بها في الأوساط الثقافية الإسرائيلية ومن جانب المثقفين والأدباء والفنانين بما  تحمله من غوغائية وعنصرية.

 و"إسرائيل" التي تشن حرباً على اليونسكو شنت حرباً من قبلها حتى على المثقفين والمؤرخين الإسرائيليين الذين انحازوا للحقيقة، فقد شنت حربها على "ايلان بابيه" الذي كشف جرائمها وتطهيرها العرقي بحق الشعب الفلسطيني في نكبة عام 1948، وعلى "شلومو سان" صاحب كتابي "اختراع الشعب اليهودي واختراع ارض إسرائيل"، واليمين الإسرائيلي الفاشي يطارد مئات المثقفين والأدباء والشعراء والفنانين في داخل الكيان والذين انحازوا ولو قليلاً لقضية فلسطين.

 كلنا يتذكر عندما رحل نيلسون مانديلا قبل عامين وشارك العالم بجنازته كشخصية عالمية وكحالة إنسانية وثقافية مناضلة، واحتفى شعبه والعالم بطريقة احتفائية تليق به، ولكن وحدها "إسرائيل" من لم تشارك في هذه الجنازة لأنها تخبطت وكانت تخجل من ذاتها، ويومها حاول "نتنياهو" عبر وسائل الإعلام المشاركة بطريقة بائسة وهو يرى العالم كله يودع مانديلا، فماذا سيقول "نتنياهو" عن مانديلا المناضل حاول الإشادة به يومها ولكنه كان عاجزاً وبائساً ولم يجد ما يقوله سوى أن مانديلا كان يستخدم الطرق السلمية بنضاله وليس العنيف، والكل يعرف أن "نتنياهو" كان كاذباً وكان صوته نشازاً  في هذا الاحتفاء العظيم، وجميعنا يعرف أن دولة جنوب إفريقيا هي التي اعتذرت عن استقبال الوفد الإسرائيلي؛ فشعبها تجرع من كأس الظلم على يد النظام العنصري الذي كانت تسانده فقط "إسرائيل"، وهو ذات الكأس الذي يتجرع منه الشعب الفلسطيني على يد "إسرائيل"، فكان انحياز الشعب الجنوب إفريقي انحيازاً مطلقاً لشعب فلسطين ونضالاته، وهذا التضامن هو من أرقى أشكال التضامن لأنه ينطوي على بعد ثقافي عميق ولا يمكن أن تفهمه دولة مارقة كـ"إسرائيل"، ويُقال أن "شمعون بيرس" كان ينظم الشعر و"نفتالي بنيت" يعزف الموسيقى, ويُقالُ أيضاً أن وزيرة الثقافة الإسرائيلية اسمها "ميري ريغن"، وهذا كله ما يمكن أن يسُمى بسخريات القدر.

 وفي هذه الأيام يحتفي الساسة والإعلام في "إسرائيل" بانتخاب السيدة اوتري اوزيلاي وزيرة الثقافة الفرنسية السابقة كأمينة عامة جديدة لمنظمة اليونسكو، وتحاول "إسرائيل" تسويقها على أنها يهودية من أصل مغربي، وأن والدها أندري كان صديقاً مقرباً لـ"شمعون بيرس" وأن انتخابها كأمين عام لليونسكو جاء نتيجة لصدمة المنظمة من تلويح الولايات المتحدة و"إسرائيل" للخروج من المنظمة، وأن هذه السيدة ممثلة للغرب، وأن بظهرها دولة عظمى  كفرنسا، والأهم من كل ذلك وعلى ذمة الإعلام الإسرائيلي أنها تمتلك كافة الشروط لقيادة التغيير داخل هذه المنظمة.

هكذا إذاً  تتعامل " إسرائيل" مع هذه السيدة الفرنسية بأنها يهودية ووالدها كان صديقاً لـ"شمعون بيرس"، وهذا ما يعكس مستوى الضحالة الثقافية لهذه الدولة ونخبتها السياسية التي لا ترى في العلم سوى المصالح الرخيصة والضيقة، وأن عالم الثقافة يمكن اختزاله بالعلاقات الشخصية التافهة.

 وفي هذا الإطار، لا يمكننا أن نحسم بالهوية الدينية لهذه السيدة الفرنسية، أو بصداقة والدها مع "شمعون بيرس"، ولا بغوغائية الساسة والإعلام الإسرائيلي الذين يحاولون ابتزازها وتشويه صورتها قبل أن تباشر عملها والضغط عليها بوسائل رخيصة، وننتظر أن تباشر عملها لتقييم أدائها.

إنه لشرف كبير  لليونسكو أن تخرج منها دول كأمريكا و"إسرائيل"، وفي الوقت الذي تنال فيه هذه المنظمة الرضا والمديح من جانب هاتين الدولتين ومن على شاكلتهما سنعلم حينها أن هذا الفساد قد امتد إلى عالم الثقافة، وعندها سنقرأ السلام على الثقافة الإنسانية، لكننا مؤمنون بأن عالم الثقافة سينتصر دائما لأننا نثق بهذا العالم الذي يمثل عالم المعرفة؛ فلقد انتصرت أثينا بثقافتها... وانتصرت سبرطة... وانتصر سقراط على مناوئيه... وانتصر يسوع واندثرت الإمبراطورية الرومانية... وانتصر غاندي ومارتن لوثر كينج ومانديلا على العنصرية... وانتصرت الثورة الفرنسية بمبادئها الكونية وسقط الباستيل.... وانتصرت الثورة المصرية بالموسيقى والشعر والأدب والغناء في ميدان التحرير على الدولة البوليسية المباركية... وانتصرت أشعار محمود درويش وروايات كنفاني ورسومات العلي على عنجهية ميري ريجان وعلى الرواية الصهيونية الزائفة.

ستبقى الثقافة العالمية حصننا وملاذنا الأخير في هذا العالم المتوحش، وبسلاح الثقافة انتصرت اليونسكو على غواصات الولايات المتحدة وطائرات ودبابات "إسرائيل" لأن قدر الثقافة الإنسانية أن تنتصر ولا يمكن أن تهزم على أيدي التنابلة والغوغائيين على شاكلة "ترامب ونتنياهو وريغن" وكل المتحجرين في هذا العالم الذين لا يقرؤون الواقع إلا من خلال ذواتهم المظلمة والظلامية.

انتهى

بقلم  الأسير كميل أبو حنيش

    من أبرز قيادات الحركة الوطنية الأسيرة، مسئول فرع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في سجون الاحتلال.