في حياة كل شعب تاريخ طويل تمتزج خلاله وتتابع الأحداث، وفي حياة كل شعب عريق انتصارات مظفرة وهزائم مؤلمة .
لكن الفرق بين الشعوب التي دامت وتلك التي اندثرت، يكمن في قدرتها عندما تتعرض للنكسات والهزائم ، على أن تحافظ على تماسكها ، وأن تؤمن بقدرها، وتنهض كطائر العنقاء من جديد.
والفرق يكمن في أن الشعوب التي تدوم تواجه أعداءها، حتى لو كانوا أقوى منها اقتصاديا وعسكريا ، بإرادة صلبة ، وبرفض التنازل عن حقوقها، وبإحساس أصيل بمكانتها التاريخية .
وتلك هي السمات التي جعلت بعض شعوب العالم تهزم قوى الفاشية والنازية الهائلة، وهي التي جعلت شعب فيتنام ينتصر مرتين في معركتين أسطورتين، مرة ضد الاستعمار الفرنسي، وأخرى ضد الولايات المتحدة وهي تتربع على عرش أقوى قوة عسكرية واقتصادية في العالم.
وهي التي جعلت الهند تنتصر باستقلالها على الاستعمار البريطاني، ومكنت مصر من أن تهزم بصمود شعبها البطولي العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي- الإسرائيلي عام 1956.
وتنتصر الشعوب عندما تسمو مكوناتها الداخلية وعقول وعواطف أفرادها إلى مستوى التكاتف الجماعي لتحقيق أهدافها.
ذلك السمو الذي عشناه في أروع صوره في فلسطين أثناء الانتفاضة الشعبية الأولى عندما انصهرت طاقات الجميع في بوتقة الكفاح والعمل، والإيمان المشترك.
تنتصر الشعوب عندما يؤمن أفرادها بوجود المصلحة العامة ويغلبونها على أنانيتهم الشخصية .
وعندما يفكرون بالآخرين مثلما يفكرون بأنفسهم .
وعندما يكونون مستعدين للعطاء والتضحية من أجل الآخرين .
وعندما يسند القوي الضعيف ، ويساند الغني الفقير، وينقل العالم علمه للآخرين دون انتظار مقابل .
تنتصر الشعوب عندما يقتدي أفرادها بالناجحين منهم بدل أن يحسدوهم ويسعون بالمكائد للنيل منهم .
وعندما يرى الناس المزايا الإيجابية في الآخرين قبل أن ينقبوا في نواقصهم.
وتنتصر الشعوب عندما يرى الجميع مستقبلهم في تقدمهم الجماعي لا في انفلات وهروب فرديتهم، و عندما يرفضوا الشعور باليأس، ويتمسكوا بالأمل وبوجود هدف يسعون إليه.
وعندما يرون في كل كبوه فرصة لنهوض أكبر، وفي كل تراجع بداية لهجوم أوسع .
وتنتصر الشعوب عندما يشعر أفرادها بعدل قادتهم وعندما يرون هؤلاء القادة يتقدمون الصفوف في كل مواجهة،
ويتنزهون عن السعي للمزايا والامتيازات على حساب شعوبهم.
تنتصر الشعوب عندما يدرك أفرادها أن التضحية بوقتهم وعملهم لا تتعارض مع مصالحهم الشخصية بل تعزز مكانتهم ومستقبل عائلاتهم.
وعندما يتعمق الشعور بالمسؤولية وأداء الواجب ويتخلص الناس من داء " اللامبالاة" تجاه الهم العام وتجاه الآخرين، وعندما يحترموا أداء، وعطاء، وعمل الآخرين حتى لو اختلفوا معهم فكريا وسياسيا .
وتنتصر الشعوب عندما يناصر أفرادها الحق والحقيقة ولا يقعون فريسة لأهوائهم الشخصية .
وسينتصر الفلسطينيون عندما يدركون أن قوتهم في وحدتهم، وأن ضعفهم في انقسامهم، واستقوائهم بالآخرين على بعضهم.
وسننتصر عندما يشعر كل فلسطيني أينما كان مكان إقامته بألم طفل فلسطيني يعاني من انعدام العلاج في مخيمات غزة ، أو من أهوال الدمار في مخيمات سوريا، أو من ملاحقة جيش الاحتلال في شوارع القدس أو الخليل .
سننتصر عندما نستعيد ذلك الشعور الجامع والمشترك بأن قضيتنا واحدة، ومستقبلنا واحد، وهدفنا واحد.
بقلم/ د. مصطفى البرغوثي