إن المتأمل في أحداث القرن الماضي يصل إلى نتيجة واضحة أن كل ما دار من أحداث خلال قرن من الزمن لم يكن محض الصدفة وإنما هو عبارة عن خطط وسياسات استراتيجية رسمت بدقة ونفذت بإتقان على العالم العربي وهو ينظر إليها تارة ويشارك في إرساءها بقصد أو بغير قصد تارة أخرى.
باكورة هذه السياسة جاءت بعد نداء ""نابليون بونابرت"" ليهود آسيا وأفريقيا في إثر انهزام حملته العسكرية على مصر وفلسطين تحت أسوار عكا، (من شباط/فبراير حتى نيسان/إبريل 1799) حيث جاء فيه ""أن اليهود سوف يتمكنون تحت إشراف الراية الفرنسية من إعادة تأسيس أورشليم، ودعا يهود فرنسا بتشكيل مجلس السانهدرين"" (هذا المجلس هو أعلى مرجعية قضائية لليهود قبل مملكة النبي داوود عليه السلام) هدف بونابرت من هذا البيان استخدام اليهود في تحقيق مشروعاته، وبالرغم ما قيل من أن البيان غير موجود في الأرشيف الفرنسي فإن هذه الجملة كانت عاملًا أساسيًا في زيادة اهتمام بريطانيا بالمنطقة العربية، من خلال عقد اتفاقيات مع مشايخ سواحل الخليج بداية القرن التاسع عشر، وحملة فريزر على مصر في عام 1807، وافتتاح بريطانيا قنصليتها بالقدس عام 1838.
كما أن بعض الكتاب الانجليز التقطوا هذه الفكرة في وقت مبكر من القرن التاسع عشر وأخذوا يدعون بإقامة دولة لليهود في فلسطين والذين عرفوا باسم الصهيونية المسيحية، حتى جاءت الصهيونية اليهودية في مؤتمر بازل عام 1897 وبدأت تفكر في إنشاء دولة لهم، ولم يتفقوا حتى مؤتمرهم السادس الذي عقد في عام 1903 على مكان دولتهم جغرافيا فقد تم اقتراح عدة دول غير فلسطين أيدها بعضهم ورفضها البعض الآخر. حتي هذا التاريخ لم تكن المصالح الصهيونية الأوروبية على المستوى الرسمي قد تلاقت بعد.
لقد شكل عام 1905 بداية التلاقي الأوروبي الصهيوني حين قررت أوروبا امتطاء الصهيونية لتنفيذ أهدافها البعيدة في المنطقة العربية والذي أقرها مؤتمر كامبل المعقود في لندن لمدة عامين من 1905حتي 1907 بدعوة من رئيس الوزراء البريطاني ""هنري كامبل بنرمان"" بهدف الحفاظ على مصير امبراطوريات القارة الأوروبية وتفادي انهيارها كسابقتيها من
الحضارتين الإغريقية والرومانية، عقد المؤتمر بصورة سرية حيث كان الموضوع المعلن له أمام الرأي العام هو محاولة نزع سلاح محور الشر (ألمانيا والامبراطورية العثمانية) غير أن القضية الرئيسية هي مناقشة السبل التي يمكن من خلالها الحفاظ على مكتسبات الحقبة الاستعمارية لأقصى مدى ممكن، وتم طرح أسئلة محددة عن مستقبل المنطقة العربية إذا عمها التعليم واستفادت من ثرواتها الوطنية ومن مكتسبات الثورة الصناعية الكبرى، بحضور مجموعة من العلماء في تخصصات متعددة منها: التاريخ والاجتماع والاقتصاد والزراعة والجغرافيا والبترول. كما ضم لفيف من الزعماء الغربيين، وشاركت فيه الدول الاستعمارية الكبرى: فرنسا وبريطانيا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا وانتهى إلى وضع وثيقة سميت باسم كامبل رئيس وزراء بريطانيا. وأوصى المؤتمرين بعد أن قسموا العالم إلى ثلاث فئات منها دول تقع ضمن الحضارة المسيحية يجب دعمها، وأخرى غير مسيحية ولا يوجد بينهما صراع حضاري و يجب احتواءها، وأما الفئة الثالثة: دول لا تقع ضمن التصادم الحضاري للحضارة المسيحية وتشكل تهديدًا لتفوقها وهي الدول العربية بشكل خاص والإسلامية بشكل عام، والواجب تجاه تلك الدول هو حرمانها من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية وعدم دعمها في هذا المجال ومحاربة أي اتجاه من هذه الدول لامتلاك العلوم التقنية ورأى المؤتمر ضرورة العمل على استمرار وضع المنطقة العربية متأخرًا، وعلى إيجاد التفكك والتجزئة والانقسام وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة للدول الأوروبية وخاضعة لسيطرتها.
ومن هنا أكدوا على فصل الجزء الأفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي، وضرورة إقامة الدولة العازلة Buffer State) )، عدوّة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية. كما وتم اعتبار قناة السويس قوة صديقة للتدخل الأجنبي وأداة معادية لسكان المنطقة. كما دعا إلى فصل عرب آسيا عن عرب أفريقيا ليس فقط فصلاً مادياً عبر الدولة الإسرائيلية، وإنما اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، والعمل على محاربة أي توجه وحدوي فيها. مما أبقى العرب في حالة من الضعف.
تجلت أهمية مفرزات هذا المؤتمر أثناء الحرب العالمية الأولى 1914-1918 حيث بدأ التنفيذ العملي لأهم توصياته وجاءت أول الخطوات العملية بالتحالف الرسمي بين جميع الدول في الحرب ضد ألمانيا والدولة العثمانية أولًا، وعقدت اتفاقية سايكس بيكو سازانوف، السرية في
مايو أيار1916 ثانيًا، لترسي ما تم الاتفاق عليه في مؤتمر كامبل ليشكل شرعية أبوية لما سيأتي فيما بعد من مؤامرات ومؤتمرات واتفاقيات سرية وعلنية، وقد أدى اتفاق سايكس- بيكو إلى تقسيم المناطق العربية التي كانت خاضعة للسيطرة العثمانية وهي سوريا والعراق ولبنان و فلسطين إلى مناطق تخضع للسيطرة الفرنسية وأخرى تخضع للسيطرة البريطانية. وانكشف أمر هذه الاتفاقية بعد أن أذاع الروس حقيقتها بعد نجاح ثورتهم البلشفية في سبتمبر 1917، وبالرغم من أن هذه الاتفاقية تتناقض مع كل تعهدات بريطانيا للشريف حسين وتمثل خديعة كبرى إلا أن الشريف حسين لم ينسحب من الحرب ووثق بكلمة الشرف المقطوعة له من السير مكماهون المشهور بالخداع والتضليل. هذه الاتفاقية ضمنت لبريطانيا سيطرتها التامة على فلسطين الأمر الذي مكنها من تصريح بلفور في الثاني من نوفمبر/تشرين ثانٍ1917
هكذا يظهر أن وعد بلفور لم يكن سوى امتداد لسياسة مرسومة سلفًا قد أتت أكلها فقد صدر التصريح قبل دخول القوات البريطانية لفلسطين بأسبوعين. إلا أن الوعد بحد ذاته لا يمثل شيء لو لم تعمل بريطانيا على تنفيذه بكل جدية ومصداقية وتفاني، فقد اتبعت عدة سياسات وأصدرت عدة قرارات منها الدولي ومنها المحلى لتنفيذ وعدها منها أن أقنعت فرنسا بالتخلي عن تدويل فلسطين، مقابل تمكينها من احتلال سوريا وتخلى بريطانيا عن حكومة فيصل في سوريا، وفي 25 أبريل 1920 اجتمع الحلفاء وقرروا ما يلي: أولًا: وضع العراق تحت الانتداب البريطاني، ثانيًا وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني مع تنفيذ تصريح بلفور، ثالثًا وضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي لدولتين منفصلتين.
ثم عملت بريطانيا على مشروع صك الانتداب على فلسطين في 24 يوليو1922 وأخذ هذا الانتداب وضعًا دوليًا بعد إقراره من عصبة الأمم. بهذا أصبحت بريطانيا مطالبة دوليًا بالعمل لإقامة دولة لليهود في فلسطين، وتبنت سياسة دعم اليهود الغاصبين واضطهاد الفلسطينيين أصحاب الأرض، والدلائل على هذه السياسة كثيرة ومنها: سن قانون الأراضي والذي سهل لليهود الاستيلاء عليها، وقامت بإصدار الكتب البيضاء وتشكيل عدد من اللجان لتضليل العرب وكسب الوقت لصالح تمكين اليهود في فلسطين، وهذه اللجان كثيرة، نأخذ منها مثالًا واحدًا وهو تقرير لجنة بل المعروف باللجنة الملكية والتي تشكلت على أثر أحداث ثورة 1936، خلص هذا التقرير إلى تقسيم فلسطين إلى دولتين دولة للعرب وأخرى لليهود، مع وضع
الأماكن المقدسة(بيت لحم القدس) تحت الوصاية الدولية، تم اعتماد توصية هذا التقرير من قبل هيئة الأمم المتحدة التي أصدرت قرار تقسم فلسطين رقم (181) في 29 نوفمبر/تشرين ثانٍ 1947، ولقد صوت لهذا القرار 33 دولة ، و13دولة ضد، وامتنعت10 عشر دول عن التصويت، وتبنّى القرار خطة تقسيم فلسطين القاضية بإنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وتقسيم أراضيها إلى 3 كيانات كما سبق الذكر
ولم تقف بريطانيا عند حد توفير الدعم الكامل لليهود بل أنها حاربت أي توجه عربي في إقامة كيان سياسي مستقل للفلسطينيين ومنها أن أوعزت لبعض الدول العربية بعدم الاعتراف والتعامل مع حكومة عموم فلسطين التي تشكلت في غزة في 23 سبتمبر 1948 برئاسة أحمد باشا حلمي عبد الباقي. واليوم في الذكرى المئة لوعد بلفور تحتفل بريطانيا بهذا الوعد مفاخرة به. ولا تأبه لمشاعر شعب تشرد وعاش ظلمًا توارثته الأجيال بفعل سوء صنيع بريطانيا وأوروبا أيضًا.
لهذا قامت دولة لليهود خلال ثلاثين عام من الوعد ولم تقم للفلسطينيين دوله بالرغم من سنوات النضال الطويلة والمستمرة والتي وصلت إلى المائة عام.
دكتور محمد عبد الجواد البطة
الباحث في التاريخ الحديث والمعاصر.