وعد بلفور .. واحتفال تيريزا !!

بقلم: عبد القادر فارس

قررت بريطانيا وبلسان رئيسة وزرائها تيريزا ماي, وبكل صلف وعقلية الاستعمار القديم , الاحتفال بالذكرى المئوية لوعد بلفور , الذي يصفه الفلسطينيون والعرب بـــ " المشؤوم " , وهو ما لقي رفضا وتنديدا من الشعب الفلسطيني وقيادته وفصائله , وامتعاضا وشجبا عربيا ... مائة عام بالتمام والكمال تمر على الوعد الذي خطه وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور , مع نهاية الحرب العالمية الأولى , ووقوع فلسطين تحت الاحتلال البريطاني , أو ما كان يطلق عليه " الانتداب " البريطاني على فلسطين , بعد اتفاقية سايكس – بيكو , بتقاسم المنطقة العربية بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي.
بعض الدراسات أكدت أن الوعد بإقامة دولة يهودية في فلسطين , لم يكن بريطانيا فقط , وإنما كان أوروبيا بشكل أعم , ولكن أوكل لبريطانيا التنفيذ بصفتها الدولة المستعمرِة لفلسطين , وأن فكرة اقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين قد سبق فكرة الصهيونية التي اخترعها تيودور هيرتزل قبيل انتهاء القرن التاسع عشر , وإن كانت بريطانيا أكثر الدول تحمسا للفكرة , ففي عام 1844 ألف البرلمان الإنجليزي لجنة كانت تسمى "إعادة أمة اليهود إلى فلسطين"، وألح رئيسها القس كريباس على الحكومة البريطانية كي تبادر للحصول على فلسطين . وفي عام 1845 قدمت مذكرة إلى الحكومة البريطانية تطالب بإعادة توطين اليهود في فلسطين بأي ثمن، وإقامة دولة خاصة بهم تحت الحماية البريطانية.
وقبل مؤتمر بازل الذي أسس الحركة الصهيونية بنحو 17 عاما , وبالتحديد في عام 1880م تبنّى الأسقف الإنغليكاني في العاصمة النمساوية ( فيينا ) وليم هشلر النظرية التي تقول "إن المشروع الصهيوني هو مشروع إلهي، وإن العمل على تحقيقه يستجيب للتعاليم التوراتية"، وألف هشلر كتابا عام 1882 بعنوان "عودة اليهود إلى فلسطين حسب النبوءات".
ومن تلك الوعود الأوروبية أيضا خطاب " الدون إيلونبرج " باسم حكومة قيصر ألمانيا إلى تيودور هيرتزل في سبتمبر 1898م .. وهنا لا بد من الاشارة إلى العلاقات الوطيدة بين النازية والصهيونية , فقد اتخذت العلاقة بين الحركة الصهيونية والحكومة النازية في ألمانيا شكلها الرسمي عندما وقَّع الرايخ الألماني والوكالة اليهودية اتفاقية (هعفارا)، أي النقل والتسفير، في نيسان عام 1933 , واستمر العمل بها حتى عام 1939، وكانت هذه الاتفاقية من أهم ثمار التعاون الصهيوني النازي في ميدان إخلاء ألمانيا من اليهود. – وهو ما ذكره الرئيس محمود عباس في أطروحته للدكتوراه من جامعة موسكو , حول العلاقات بين النازية والصهيونية - فقد سمحت بموجبها ألمانيا لليهود الألمان المهاجرين إلى فلسطين بنقل أموالهم معهم، مقابل إلغاء الصهيونية للمقاطعة الاقتصادية التي فرضها اليهود على البضائع الألمانية. وأما بقية اليهود في ألمانيا فقد كان النظام النازي يصادر أموالهم بدون أي تعويض، وكان الصهاينة ينالون حصتهم من هذه الأموال على حساب يهود لم يقبلوا بالفكرة الصهيونية. وشارك في الاستفادة من الأموال المصادرة عدد كبير من زعماء الصهيونية، ومنهم من تقلدوا فيما بعد رئاسة الوزارة في إسرائيل، مثل أول رئيس وزراء لاسرائيل ديفيد بن غوريون، ومن بعده موشي شاريت، وغولدا مائير، وليفي إشكول.
وكذلك كان هناك الوعد الروسي , ولو من باب الكراهية لليهود , من خلال وعد وزير الداخلية الروسي- المعادي لليهود- "فون بليفيه " بالموافقة على تهجير اليهود إلى فلسطين , والموافقة على اقامة دولة لهم هناك . وذلك عندما قابله هيرتزل بتفويض من المؤتمر الصهيوني الخامس عام 1901.
وقبيل وعد بلفور بأشهر قليلة , كان هنالك وعد فرنسي بتاريخ 4 يونيو عام 1917 من خلال "جول كامبون" نائب وزير الخارجية الفرنسي آنذاك، ومما جاء فيه ( إننا تقدر أنه إذا سمحت الظروف وتحقق استقلال الأماكن المقدسة، فإنه سيكون من الإنصاف مساهمتنا من خلال حماية دول الحلفاء، في إحياء الجنسية اليهودية على أرضها حيث الشعب الإسرائيلي كان قد طرد منذ قرون عديدة خلت ) .
والسؤال : لماذا كل هذه الوعود لإقامة دولة لليهود في فلسطين .. الاجابة تقول إن تلك الوعود لم تكن محبة لليهود في معظم الأحوال , ولكن أيضا للتخلص من المشاكل السياسية والاجتماعية والدينية , وبالأخص الاقتصادية التي كان يشكلها وجود الأقليات اليهودية في المجتمعات في المجتمعات الأوربية , حيث السيطرة شبه التامة من خلال امتلاك البنوك والشركات الكبرى , واقامة اليهود داخل " غيتوات " معزولة تشكل بؤرا للتوتر والصراع مع باقي فئات المجتمع , ووجود كراهية لليهود لدي العديد من فئات المجتمعات الأوروبية , فجرت ردود فعل على تصرفات اليهود , من أجل التخلص منهم في أوروبا , بإيجاد تلك الجمعيات والحركات الداعمة لهجرتهم من أوروبا , والوعود لإقامة دولة اليهود في فلسطين .
بعد مائة عام على وعد بلفور تقرر رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي , اقامة احتفال رسمي احياء للمناسبة , بحجة المساهمة البريطانية الكبرى بإقامة دولة اسرائيل , ولكن في الحقيقة أن السيدة تيريزا ماي التي غربت الشمس عن امبراطوريتها منذ زمن طويل , تحاول العمل على ايجاد موقع لبريطانيا على الخارطة الدولية , بعد تراجع الدور البريطاني في الساحة الدولية , وخاصة بعد انسحابها من الاتحاد الأوروبي , وأصبحت دولة منبوذة , ولا دور لها سوى أن تكون تابعا وذيلا للسياسة الاميركية , وهي تريد اليوم العودة من النافذة الاسرائلية وعبر البوابة الاميركية الراعي الأول لدولة اسرائيل , بعد أن خرجت من البوابة الأوروبية .
في النهاية وفي ظل الظروف الفلسطينية الضعيفة , والظروف العربية المنشغلة بالصراعات الداخلية , والدول الاقليمية الكبرى في المنطقة ( تركيا وايران ) التي لا تستطيع تقديم أي شئ لفلسطين سوى الكلام , فإنني اقترح - وإن كان ذلك لن يعجب الكثير من القراء - ان نعلن " القبول بتطبيق وعد بلفور شاملا " , وهو الوعد الذي تم تطبيقه وتنفيذه بقرار دولي هو قرار التقسيم رقم 181 في نوفمبر عام 1947 , بإقامة دولتين يهودية ( اسرائيل ) وعربية ( فلسطين ) على أرض فلسطين التاريخية , وهو القرار الذي لم يطبق وأقيمت بفضله دولة اسرائيل على 78 % وليس 57.7 % , كما نص عليه القرار , أليس ذلك أفضل من المطالبة بدولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 , أي 22% فقط من مساحة فلسطين , وهو ما حاول تسويقه اليوم وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون ( وهو من كبار مؤيدي اسرائيل ) , من خلال المطالبة بإقامة دولة فلسطينية وفق القرار الأممي 242 الذي صاغته وقدمته بريطانيا في شهر نوفمبر أيضا عام 1967 , والقاضي بانسحاب قوات الاحتلال الاسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة , مشيرا إلى أن ذلك هو في مصلحة وأمن دولة اسرائيل ... اسرائيل التي يبدو أنها لا تكترث لقرارات الأمم المتحدة , ولا باتفاقات السلام , وتسعى دائما إلى المزيد من الاستيطان والتوسع , وإلغاء فكرة قيام دولة فلسطينية ... إذن فمن الأفضل لنا أن يبقى الصراع مفتوحا إلى حين توفر الظروف الملائمة فلسطينيا وعربيا واسلاميا واقليميا ودوليا , وعندها لكل حادث حديث !!

د. عبد القادر فارس