رقيقٌ، غضٌّ، مائيٌ في يومه، سماويٌ في نومه، هادئٌ في وقفته، حالمٌ حتى في غضبه. إنه في طريقه إلى سن الرابعة وأكثر.. ما يزال جسده أرق من طفل وأشدُ من رضيع، يحاول البحث عن بطولة في القفز من هذا السُلّم، تعَلّق باللون الأزرق كما في نموذجه الأعلى "الرجل العنكبوت"، بل واختار لنفسه لوناً آخر خاصاً لا يرتبط بشيء أو بأحدٍ سواه، فكان الأصفر؛ اختار قُرصَ الشمس، وحَرِص على ارتداء نظارته الشمسيةَ الصغيرة مُعتقداً أن الشمس موجودة في كل الأوقات والأماكن، حتى داخل البيت، يراقب بزوغها خلف الغيوم معتقداً أنها القمر، يحتاج لأن نخبره قليلاً عن الشمس والقمر والليل والنهار، لكن الأهم بالنسبة إليه أنهما يُضيئان ويستوجبان ارتداء النظارة... ومع ذلك لا يَهُمه الليل والنهار، العتمة والضوء، المهم أن يكون بينهما سعيداً. إنه اللون الأصفر؛ لون الفرح، ضوء ابتسامة متكلّفة أو صادقة، يراوح بينهما حسبما يقتضيه الموقف، يعيش بين الضبابية والوضوح، يعيش الحالة الثانية بوضوح، إنه لون التوهُّجِ والشروق، تَجَلّيات الخريف وتَساقُطِ الأوراق، يبزغ منه مُتألقاً نحو بداية جديدة، إنه لونُ التفاؤلِ والتأملِ والتألقِ والشهرة..
كانت ساقاه النديتين تبحثان عن موطيء قَدَمِ صغيرة، مازالت لا تعرف الغبار والحجارة وقسوةَ الصخور، يرتدي حذاءً رياضياً يحاول أن يجعل قدمه أكثر تماسكاً وثباتاً ووقوفاً على هذه الأرض الصلبة، لكن سرعان ما أنحني لمساعدته في ارتداءِ الجواربَ والحذاء، تظهرُ لي القدم الصغيرة، لا مناص من احتضانها وتقبيلها فوراً شاكرة الرب على نعمة الطفولة ولَذّتِها في البيت.
إنه طفل يتحوّل.. يتركُ باب الحضانة متوجهاً إلى الروضة.. لا يُفضّل التجمعات، لا يهوى الضجيج، لا يحب الساحات الممتلئة والمزعجة، يحب اللعب والأصدقاء والتركيز، ربما يرى ما لا نراه، يراقب المكان الجديد، لا يقترب إلا حين يشعر بالأمان والفرح.. يراقب التمرين الجديد جيداً ولا ينخرط قبل أن يستشعر قدرتَه على تنفيذِه والاندماج به.. مثلما تذوبُ الكلمات بين شفتيه...
في يومه الأول في الروضة نتركُه ولا يترُكنا، يُرسِل انعكاس عينيه لترافقنا قائلة: لا تتركوني. قوة مغناطيسية تتنازعنا، علينا الذهاب ونريد البقاء بقربه، نشعر بوحدته رغم جمالية المكان وانحناء المعلمات حناناً له، يذرف دموعاً قاتلة للآباء والأمهات، وبعد غيابنا، يفرح بالمكان، فيما تبقى ذاكرتنا حزينة تفكر به، يتكرر المشهد، إلى أن يفهم كلينا، أن له مكانه ولنا طريقنا الحتمي إلى العمل.
ينطلق في سن الرابعة، سنشتاق إلى كلماتِه المتعثرة، وحروفِه المبعثرة، وأفكارِه الجنينية، سنشتاق إلى تعبيراته وبكاءه الذي كان يجهل حروفَ اللغة. تلتصق بنا كلماته غير المفهومة للآخرين، فنُكررها فيما هو يتقدم ويكبُرُ... لكننا كأننا ننسى أنه يكبر.
مايزال يمارس هوايته في القفز ليُسطر بطولة ما، يقفز من درج الروضة والبيت وحتى من الكرسي إلى حضن أمه أو ابيه ثم يقول: شفتي الي بِنُط بكون بطل!.. بدأنا معاً رحلة البحث عن بطولات أخرى أكثر نفعاً فتراجع تدريجياً عن عادة القفز وقد فهم أنه لا يرغب بالقفز كي لا يصطدم ويبكي.
نخرج يومياً يُمسِك بِيدِ أختِه التي تكبره بثلاث سنوات، الطفلة الكبيرة الصغيرة تمضي الطريق في ارشاده بما هو مسموح وما هو ممنوع في المدرسة، تُصِر على إيصاله إلى غرفة الصف، وبعد أن ينتهي اليوم الدراسي تركض إليه لتلعب معه ريثما نصل..
كلٌّ منهُما يبحث عن بطولةٍ ما... مُسلسل لا ينتهي، هُم يَكبرون ونَحن نَمتَلِيء بِذاكِرَةٍ خاصّة بِهِم.. ولا تَمتَلِيءُ الذاكِرة أبداً.
بقلم/ بثينة حمدان