بغض النظر عن الملاحظات على منهجه وبرغماتيته السياسية،فعرفات لم يكن رقماً عابراً في سفر النضال الوطني الفلسطيني،فعلى امتداد سنوات وجوده وقيادته لفتح والمنظمة،كان الرقم الصعب في المعادلة الفتحاوية والفلسطينية،وكان بارعاً في التكتيك السياسي،ويقبل القسمة على جميع اجنحة فتح وتياراتها،وكذلك على الفصائل الفلسطينية المتوافقة والمختلفة معه يميناً ويساراً،وحتى التي اختلفت معه في منهجه ورؤيته السياسية،وقادت تيارات وقوى المعارضة الفلسطينية،وعلقت عضويتها في اللحنة التنفيذية للمنظمة،وشكلت هذه القوى جبهة الرفض الفلسطنية،وجبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني والقوى الديمقراطية الفلسطينية،وفي المقدمة منها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين،فهي لم تصل بعلاقاتها ومواقفها مع ابا عمار الى مرحلة القطيعة وتشكيل البديل عن المنظمة،بل كانت حريصة على ان تبقى المنظمة الكيانية والعنوان والمظلة والخيمة التي يستظل بها كل أبناء الشعب الفلسطيني،وبرغماتية عرفات السياسية اتاحت له ان يتحرك في العواصم العربية،حيث الشعب الفلسطيني منتشر على كل هذه الجغرافيا،بفعل اللجوء والشتات والعيش في هذه البلدان،ولذلك كان هو يدرك تماماً،بأن العديد من القوى الفلسطينية الممثلة في اللجنة التنفيذية للمنظمة ومؤسساتها،لا تتمتع بالحضور الشعبي والجماهيري الحقيقي،بل هي صدى لمواقف دولها،ولكن كان هو يحتاجها كجواز عبور الى كل الأقطار العربية.
أبو عمار وقف على رأس منظمة التحرير الفلسطينية،في فترة صعود النضال والكفاح الوطني الفلسطيني،بعد ان هزم المشروع القومي العربي،مشروع تحرير فلسطين من قبل العرب،الذي فرض على القوى الفلسطينية قيادة نضالها بعنوان فلسطيني ذو بعد عربي وأممي،وعرفات حمل القضية الفلسطينية،بعد اعتراف العرب بالمنظمة كمثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني الى الأمم المتحدة داعياً العالم الى نصرة شعبنا وإحقاق حقوقه في دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة على حدود الرابع من حزيران /1967 وأدخل القضية الفلسطينية مع بقية القوى والفصائل الفلسطينية الى العالم اجمع،وأصبحت الثورة الفلسطينية نموذجاَ ومثالاً يحتذى به لكل قوى الثورة والتحرر في العالم،بل كانت عامل جذب لكل المقاومين والثوار في العالم،بحيث التحق بالثورة الفلسطينية بمختلف فصائلها الكثير من المناضلين والمقاومين العرب والأممين من مختلف العالم،وليس أدل على ذلك المناضل الأممي كوزوا أكاموتو ومجموعته من الجيش الأحمر الياباني،الذين انتموا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين،وهم من قادوا عملية مطار اللد في 31/5/2017 .
بعد الحرب العدوانية التي شنتها اسرائيل على الوجود الفلسطيني في لبنان عام 198،من اجل اجتثاثه وتصفيته،وما ترتب عليه من خروج للمنظمة وفصائلها الى العديد من الدول العربية،عصفت الخلافات بوحدة الفصائل الفلسطينية ووحدة حركة فتح،وكانت مرحلة قاسية في تاريخ الثورة الفلسطينية،عنوانها الشرذمة والإنقسام،والدخول في صراعات مع الدول العربية،وعانت المنظمة من التهميش،وبدأت تخرج المشاريع والخيارات الداعية الى تجاوز المنظمة ووحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني،ولكن سرعان ما استعادت المنظمة وحدتها بعد إندلاع الإنتفاضة الأولى،إنتفاضة الحجر في في 7/12/1987، تلك الإنتفاضة التي كنا نعول عليها بأن تنقل الدولة الفلسطينية من الإمكانية التاريخية الى الإمكانية الواقعية،ولكن قاد الإستثمار المتسرع لنتائج الإنتفاضة الى ولوج مرحلة مدريد وما ترتب عليها بعد ذلك من اتفاقيات اوسلو الإنتقالية المحددة بخمس سنوات،والتي كان ابا عمار يعتقد بانه من الممكن ان يعبر هذا الوحل نحو دولة فلسطينية مستقلة،في قراءة غير صحيحة ودقيقة لطبيعة المحتل وقوى العدوان،حيث أن هذا الإتفاق،دفع وما زال يدفعه شعبنا ثمناً إنقساماً وتفكيكاً وطنياً ومجتمعياً،وتضاعف الإستيطان بشكل غير مسبوق في الضفة الغربية،ناهيك عن ما يمارس بحق القدس من تطهير عرقي،يستهدف تهويد أرضها وأسرلة سكانها،عبر قرارات وقوانين وتشريعات عنصرية،الهدف منها تغيير الواقع الديمغرافي لصالح المستوطنين،وكذلك اوسلو أبقى الكثير من أسرى القدس والداخل الفلسطيني- 48 – خلف قضبان سجون الإحتلال واكياسه الحجرية،واوسلو بدل أن يكون جسرا للوصول الى الدولة الفلسطينية،والذي برر أبا عمار الولوج فيه كممر إجباري،نتيجة المتغيرات العربية والدولية،وجدنا أن اوسلو قسم الأراضي الفلسطينية الى معازل و"جيتوهات" مغلقة،ولكي نجد انفسنا امام سلطة بدون سلطة،كما قال الرئيس عباس في كلمته امام الدورة الثانية والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة،ولكي يكون اوسلو بلغة ثعلب السياسة الإسرائيلية شمعون بيرس،النصر الثاني لدولة الإحتلال بعد النكبة.
واضح بان قادة اسرائيل ما أرادوه من أبا عمار والمنظمة،هو مسألة الإعتراف بدولة اسرائيل،ولم يكن في خلدهم منح الفلسطينين دولة مستقلة،ففي "كامب ديفيد" مورست الكثير من الضغوط على الرئيس القائد الشهيد أبا عمار،لكي يوقع على إنهاء الصراع،دون تلبية الحد الأدنى من حقوق شعبنا الفلسطيني،دولة فلسطينية كاملة السيادة على حدود الرابع من حزيران/1967،عاصمتها القدس،وحق العودة لللاجئين الفلسطينيين،وفق القرار الأممي194،ولكن أبا عمار بحنكته وخبرته وتجاربه الطويلة،وبثباته على الموقف الوطني،وعدم التفريط بحقوق الشعب الفلسطيني،رفض التوقيع وكل الضغوط التي مورست عليه،وليجري لاحقاً وسمه بالإرهاب،بعد أن كان بطلاً للسلام،وتقاسم جائزة نوبل مع رئيس وزراء الإحتلال أنذاك المغدور رابين،ومن بعد ذلك جرت عملية اجتياح الضفة الغربية من قبل شارون،وحصار الشهيد القائد أبا عمار في المقاطعة برم الله،لكي يجري لاحقاً إغتياله مسموماً،والذي ما زال قتلته دون حساب وعقاب،ودون معرفة من هم،مما يجعلنا نطالب حركة فتح بلجنتها المركزية ومجلسها الثوري،بضرورة إماطة اللثام عن قتلة الشهيد القائد أبا عمار.
أبا عمار بكوفيته وبعمق تجربته،ونفاذ بصيرته وحكمته،وقدرته العالية على استخدام التكتيك السياسي،مثل قاسما مشتركاً بين الكل الفلسطيني،فتح بتياراتها واجنحها المختلفة والفصائل الفلسطينية،وكان قائداً يحظى بثقة العرب والمسلمين،وحتى على المستوى العالمي،كان من القادة المعدودين،والساحة الفلسطينية في عهده،ليس كما هي الان، لم تكن تعج بالخلافات والصراعات والإنقسامات،فهو كان يمتلك "كاريزما" قيادية جامعة،وكذلك مدينة القدس كان لها حصة كبيرة في خططه وبرامجه وفكره،وفي ضميره ووجدانه،وحتى في اصعب اللحظات الحالكة التي كان يمر بها في الحصار في المقاطعة،كان يردد "عالقدس رايحين،شهداء بالملايين" ،وكان اهل القدس يحظون بدعمه ومساندته لهم،رغم فساد البطانة المحيطة به،والتي كانت سبباً في ضياع العديد من قطع الأراضي التي أقامها عليها المستوطنون مستوطناتهم،في مدينة القدس،بسبب جشعهم ونهمهم وطمعهم وفسادهم،الذي أضاع فرصة شرائها بالأسعار المعقولة،والتي كانوا يضاعفون أسعارها امام أبا عمار عدة مرات،لكي يراكموا ثرواتهم،دون وازع او ضمير،أو انتماء وطني.
الشهيد القائد الرحل أبا عمار،واحد من عمالقة النضال الوطني الفلسطيني،له بصماته العميقة على ثورتنا وتاريخنا،وترك أثراً عميقاً في وجدان شعبنا،وذاكرته،ولذلك ما زالت هذه الجماهير تحفظ لهذا القائد،كما للقادة الاخرين حبش والياسين والشقاقي،وتلك القائمة الطويلة من قادة وشهداء شعبنا،تعاليمهم وأفكارهم،وملاحم بطولاتهم وتضحياتهم،والسير على خطى نهجهم وفكرهم ،كورثة لهذه التعاليم والأفكار.
بقلم/ راسم عبيدات