أو هل يزول تردد الإسرائيليين والفلسطينيين عن تصوراتهم حول السلام؟
ترددت بأيهما أعنون مقالي هذا؟
وهما، العبارتان مقتبستان من مقال وزير الخارجية البريطانية السير بوريس جونسون بمناسبة مئوية بلفور.
لقد لفت نظري في مقاله هذه الفقرة:
"كيف سيبدو المستقبل يا تُرى؟ في المجالس الخاصة، غالبا ما يفصح لي الإسرائيليون والفلسطينيون عن تصوراتهم للسلام – وكثيرا ما تحفل معاييرهم بالعديد من القواسم المشتركة. ولكن يمكن فهم ترددهم في تحديدها في العلن."
ترى ما الذي أفصح به الفلسطينيون والإسرائيليون في مجالسهم الخاصة للسير جونسون؟ ما الذي ظل في السرّ؟ ولماذا يظل؟
لعل السرّ يتعلق بما حسمه الإسرائيليون على أرض الواقع، لنسف قيام دولة فلسطينية، مما شجع الفلسطينيين (وهم كثر) والإسرائيليين(وهم أقلية) على التفكير بالدولانية المشتركة.
لم يعد ذلك سرا!
- هي إضاعة وقت..
- ربما!
- ستعيد حديثك عنها؟ الواحدة؟
- سنحاول التعمق معا..
- وشرط ذلك؟
- إزالة تردد الإسرائيليين والفلسطينيين عن تصوراتهم حول السلام.
بهدوء وحكمة وعقلانية وإنسانية وحلول عملية!
وفي العلن أيضا..
إذا غضضنا الطرف عن المجاملة السياسية لوزير الخارجية البريطانية السير بوريس جونسون في النصف الأول من مقاله المنشور، بمناسبة مئوية وعد بلفور، فإن النصف الثاني من المقال يحمل بذورا لنماء سياسي مستقبلي عملي، من الضروري بحثه.
وهو هنا يهيئ الإسرائيليين للنصف الآخر العملي والاستراتيجي، لذلك قال: إنني لا أرى تناقضا بين كوني صديقاً لإسرائيل – ومؤمناً بقَدَر ذلك البلد – وبين تأثري الشديد بسبب معاناة الذين تضرروا وحُرموا من ديارهم جراء مولدها. فالشرط الحيوي في وعد بلفور – الذي القصد منه حماية الطوائف الأخرى – لم يُطبَّق بالكامل.
ولا تبعد تلك البذور عما دار من فكر سياسي بريطاني تجاه الشكل الدولاني لفلسطين، ولعل من أهم محطاتها لجنة بيل، وعدم تصويت بريطانيا على قرار تقسيم فلسطين، وما عرف بالكتاب الأبيض.
قد تكون كلمات الوزير جونسون بداية لخارطة طريق للخلاص، إن صفت النوايا، واتسعت الصدور والعقول.
"بريطانيا ستقدم كل ما في وسعها من دعم لإكمال ما لم يكتمل من عناصر وعد بلفور.. لقد أعلن بلفور أن "حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين"؛ إلى جانب الشرط الشهير والحاسم بشأن "عدم الإتيان بأي عمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية الموجودة أصلا في فلسطين".
عبارة مهمة تعني بشكل مباشر حقوق الشعب الفلسطيني، والتي عبّر الوزير بصراحة عن استحقاقاتها، وعلى رأسها الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
حين دعيت إلى الكتابة عن وعد بلفور، اتجهت بكليتي لا إلى الماضي ولا إلى الحاضر بل إلى المستقبل، هل يمكن التحرر من بلفور ولو بعد مائة عام!؟
أي أنني ككاتب فلسطيني، يصعب عليّ أن أتجاوز واقع أنني من هنا، أعيش تحت الاحتلال، فإسرائيل دولة محتلة وكولينيالية، داخل فلسطين المحتلة عام 1948 وفلسطين عام 1967، وفي الوقت نفسه، ثمة حديث عن كيانين غريبين في التشكيل أحدهما الفلسطيني الحديث عنه حديث هلامي، وحيث أن إسرائيل كأكثرية يهودية هي المتحكمة بفلسطينيي عام 1948، وهي كقوة عسكرية تحمي الاستيطان داخل فلسطين 1967، وما أفرز ذلك من واقع على الأرض، استدعى المفكرون له سيناريوهات دولانية، لا تغيب عن شكل الدولة ثنائية القومية، حيث يكتسب هذا المعنى منظورا يختلف عن منظوري كفلسطيني تحت الاحتلال يقاوم الاحتلال، إلى منظور جديد، لم يلغ مقاومة الاحتلال وإقامة دولة وطنية، إلا أنه يسعى إلى البحث الفلسفي الوجودي لحل مشكلتي كفلسطيني وحل مشكلة اليهودي الإسرائيلي الذي صار وجوده هنا متداخلا مع وجودي.
كما أسلفت لن أستطيع تحدي التأمل بعيدا عن منظوري كفلسطيني تحت الاحتلال، لكنني أجد نفسي كفلسطيني باحثا عن آفاق أكثر رحابة، ورغم أن هذه الرحابة تؤلمني، لأنها تجعلني أبحث عن حل لمشكلة لست انا الفلسطيني مسبب بها، بل عن حل لعدويّ، إلا أنني كإنسان وجودي
وواقعي، أجد أنه هناك مسؤولية تدفع للبحث عن حلول، وهي وإن كانت تدخل المحتل ضمن مربع البحث، إلا أن هذا الإدخال يأتي عبر البحث عن آفاق حلول مستقبلية لتخليص شعبنا من الاحتلال والسيطرة. بعد ذلك يصبح السؤال الأهم هو كيف نعيش؟
وكيف نقرر معا شكلا تفاصيل العلاقة؟
الدولة الواحدة نظرية قائمة وقد طبقت تاريخيا في الكثير من البلاد..أي هي معنى عادي كانت وظهرت إلى الوجود..لكن المهم هو: كيف يمكن إيجادها على أرض الواقع هنا؟
ليس جديدا أن نرى من يدعو إلى الدولة الواحدة في فلسطين التاريخية..
لكن الجديد والمهم هو من يضع تصوراته عن الدولة الواحدة للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي من خلال أربعة مرتكزات:
- كيفية الطريق إلى الدولة الواحدة..
- القوانين والعلاقات الداخلية فيها.
- تصوره للدولة الواحدة ضمن سياق قومي عربي.
- تصور علاقات الدولة إقليميا وأوروبيا وأمريكيا.
صار هناك تاريخ يمكن البحث فيه وتتبع محطاته حول الاجتهادات الفلسطينية والعالمية والإسرائيلية حول العيش المشترك في كيان واحد يضم الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي..هو تاريخ الفكرة والأفكار، يجد الباحث فيه مبررات الدعوات في كل مفصل تاريخي وسياسي وتنازعي –صراعي.
إن مبررات الدولة الواحدة كثيرة: منها العدالة والسلام الدائم والأمن الحقيقي، وحقوق الإنسان.
إن محاولات التوصل إلى حل الدولتين على أساس تقسيم أرض فلسطين إلى كيان فلسطيني على 22% من أرض فلسطين التاريخية، وكيان إسرائيلي على 78% منها، فشلت لأنها عجزت عن توفير الحد الأدنى من العدالة، كما أن حل الدولتين يتجاهل الواقع الجغرافي والسياسي، ويؤسس لسياسة التجزئة والفصل وعدم المساواة..
أما علاقات الدولة الواحدة هنا ضمن سياق قومي عربي، وضمن علاقات الدولة إقليميا وأوروبيا وأمريكيا، فأزعم أن بحثهما أمر استراتيجي، كون إسرائيل حليفا للغرب، للولايات المتحدة خصوصا، ذلك أن تأسيس هكذا دولة لا يمرّ فقط من خلال الإرادتين الفلسطينية والإسرائيلية، بل وأيضا لا بدّ من توفرّ إرادة أوروبية وأمريكية، ذلك أن قيام الدولة الفلسطينية الإسرائيلية في فلسطين ستنسف تحالفات دولة إسرائيل، حيث ستتجه الدولة الجديدة نحو علاقات متوازنة مع المحيط العربي كون الفلسطينيون أشقاء للشعوب العربية، وكونهم (والإسرائيليون بشكل خاص) أصدقاء وحلفاء لأوروبا والولايات المتحدة.
ففي حالة حل النزاع-الصراع هنا، لن تعود تحالفات إسرائيل ضرورية، لأنها ستصبح من بنية المنطقة، حيث ستنتهي إسرائيل العنصرية والكولينيالية، وستندمج إسرائيل الديمقراطية بفلسطين الديمقراطية. وستكون دولة علم وصناعة وتكنولوجيا وثقافة..لا دولة عسكرية في الدرجة الأولى، وإن كانت ستكون دولة قوية بالمفهوم العسكري، للدفاع عنها وليس للهجوم على أحد.
هذا المرتكز يعنى بالعلاقة ما بين الدولة الواحدة والدول العربية والإسلامية، فمن الطبيعي أن تزول علاقة العداء، ويتم استبدالها بعلاقة حسن جوار.
علاقات تقوم على التعاون والصداقة، وهي صداقة من نوع خاص، كون نصف سكان الدولة فلسطينيين عربا لديهم صلات طبيعية مع دول الجوار العربي والإسلامي.
ستكون الدولة فيها الأديان الإسلام والمسيحية واليهودية..ومن اللغات العربية والعبرية والإنجليزية..وستكون عروبية غربية، وهي بهذه المعاني ستكون دولة مميزة، تستطيع الاستفادة من هذه المزايا، ستكون لها علاقات مع المحيط العربي.
وستكون لها علاقات مع الغرب والولايات المتحدة..وربما ستتوسط الشرق- والغرب..بالمعنى الرمزي والواقعي..حيث سيكون حل النزاع هنا بين العرب والمسلمين وإسرائيل، حلا لمشاكل تاريخية بين العرب وأوروبا والغرب عموما..
أي ستكون عضوا في جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وربما الاتحاد الأوروبي..
قد يبدو ذلك رومانسية فكرية وسياسية، لكنها فكرة إنسانية لحل القضية من جذورها، وهناك ما يشجع "خصوصا أن أوساطا واسعة في العالم يمكن ان تبدي تفهما أكبر للأبعاد المتعلقة بالمساواة والعدالة وحقوق الإنسان كما يمكن ان يجسدها هذا الخيار
أرى أن على الفصائل الفلسطينية والأحزاب الإسرائيلية المؤمنة بهكذا مستقبل للعلاقة بين الشعبين وبينهما وبين الشعوب العربية والعالم أن يضعا ذلك الطموح في برامجها الحزبية..
ومن ثم يكون وصول تلك الفصائل والأحزاب في فلسطين وإسرائيل للحكم، من أجل تسهيل الوصول لهذا الحل، ويتم عن طريق:
أولا: منح إسرائيل الاستقلال للشعب الفلسطيني على معظم أراضي عام 1967.
ثانيا: إزالة الحواجز وجدار الفصل العنصري.
ثالثا: مساهمة إسرائيل في تنمية فلسطين.
رابعا: تعاون شامل كبير بين الدولتين.
خامسا: وضع ما يلزم من متطلبات في التعليم واللغة والإعلام.
سادسا: حرية التنقل والعمل والتجارة.
وسابعا وثامنا....بما يخفف من الفجوات والتناقضات، وبما يزرع الثقة بين الشعبين.
هذا هو بلفور الغد، سلام وأمن وكرامة الجميع هنا!
تحسين يقين