العلماء... بين قوة الدليل وقوة العميل

بقلم: ماهر الجعبري

"كان عن الشريعة أصم" بهذه الكلمات يصف العالم الفذّ "محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي" عالما آخر، "كان جليل المقدار، يكاتبه السلطان... صبوراً على الفقر، منقبضاً عن الدولة، وكان يصلّي خلفه في مسجده في البصرة ثمانون شيخاً من علمائها، وهو أحد من له الرياسة في حياته"، كما تَنقُل الآثار، وهو "عبد الرحمن الأصمّ"، وهو من هو في علوم الشريعة، والتفسير حتى أن الرازي كان يوافقه وينقل عنه، وكذلك الزمخشري.

في ذلك الوصف القاسي، استعار القرطبي من اسم العالم (الأصم) صفة "الإعراض عن حكم الشريعة"، لأنه خالف مشروعية تاج الفروض في الإسلام، وهو حكم "الخلافة"، كما ورد في كتاب الجامع لأحكام القرآن، عند تبيان حكم اجتماع الأمة تحت سلطان الخلافة، في معرض تفسير الآية: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً"، وذلك عندما قال القرطبي: "هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتُنفّذ به أحكام الخليفة. ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما رُوي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم، وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه...".

ومن الواضح في كلام القرطبي، أنه وصف عابر للزمن ومتسلل إلى الأجيال، يُطلقه–رحمه الله- ليلتصق بكل عالم يُدبر عن مشروع الخلافة، ليلحق بمشاريع الحكام العلمانيين أو "المتأسلمين" في أنظمة الحكم كما في السعودية، بل ويبرر لهم استبدادهم، ويروّج لأباطيلهم السياسية، حتى ولو تضمنت طقوس الانحناء أمام السيد الأمريكي، ومشاعر النشوة عند الارتماء في أحضانه، وخيلاء الاستقواء بعنجهيته على المسلمين المقهورين تحت قسوة تجبّره، والمدعوسين تحت دباباته، التي تجوب بلاد المسلمين من أفغانستان إلى العراق، والمقصوفين بطائراته التي تسرح في سماء سوريا وتنطلق من أجواء تركيا...

فماذا لو اقتبس أحدٌ –اليوم- ذلكَ الأسلوب البلاغي عن القرطبي، وقال عن رئيس هيئة كبار العلماء في السعودية: إنه عن الشريعة أعمى؟!؟

أي سماء تُظلّه وأي أرض تقلّه حينها! أمام هجمة مشايخ السلفية الوهابية، التي تُسبّح بحمد سلمان وابنه، بعدما سبّحت -من قبل- بحمد عبد الله وإخوته، رغم أن سلمان ينسف وصايا سلفه من الملوك، ورغم أن ابنه يزيل القشور (الإسلامية) ويمزّق البراقع النسوية، التي تغطّى بها نظام الحكام في السعودية، وهو يتجرّأ على الأعراف الملكية التي سبقته، كما يتجاوز حدود عقيدة الولاء والبراء، بل يقلبها ويشقلبها، في ممارسة سياسة "الولاء للأمريكان" و"البراء من الشعوب الإسلامية" المقهورة تحت عناوين الطائفية البغيضة، والتي ظلت سلفية آل سعود تشحن الأمة في سياقاتها أكثر مما تشحنها ضد المحتلين والمستعمرين، وكأن "الولاء والبراء" سيف مسلط على رقاب الطوائف الإسلامية، حتى جعل الرياض عاصمة الرعب السياسي، مع أنه –أصلا- مبدأ رحمة لا عذاب، للبشرية جمعاء لا للمسلمين فقط.

والأسئلة الأكثر وجعا: ماذا كان القرطبي سيقول عن العلماء الذين اعتبروا التعاون مع الكابوي الأمريكي المتعجرف حنكة ومصلحة، أو جعلوا كشف عورات الحسناوات الأمريكيات في الحضرة السعودية رخصة، ثم صمتوا عن "التجديف" السياسي نحو الليبرالية المنفتحة (بديلا عن الوهابية المتزمتة!)، بل عن الذين استباحوا قتل الأبرياء بالسلاح السعودي والخليجي في اليمن وجعلوه جهادا، بينما أغمضوا عيونهم  عمّن يقتل أهل فلسطين بسلاح الكابوي الأمريكي نفسه، بل تجرؤّا على اعتبار مقاومته إرهابا؟

ولأن هذا المقال ليس اصطفافا مع علماء ضد آخرين، لا بد من التساؤل أيضا: ماذا كان القرطبي سيقول عن علماء صمتوا عن سياسة التركيع الفكري في الجانب الآخر، وعن نهج التوفيق بين مشروع الإسلام ومشاريع الحكام، في قطر وفي تركيا مثلا، وعن العلماء الذين استحضروا فقه الأرامل واليتامى، عندما "نهضوا!" ضد هجمة تهويد المسجد الأقصى، فلم يتجاوزا أدوات ذلك الفقه من الكفالة المالية التي تجعل الكفاح استرزاقا، بدل أن يستحضروا فقه الجهاد، وعناوينه العسكرية التي ترسخ أن الكفاح عبادة خالصة لوجه الله، "لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا".

ماذا كان القرطبي سيقول عن العلماء الذين يسرحون في فضاء حكام قطر ويحلّقون في أثير حكام تركيا، صامتين عن منكر التطبيع السياسي، ومتجاهلين تلك التغريدات النشاز التي اعتبرت القدس مقدسة أو حقا للديانات الثلاث بما فيها اليهودية، والتي تتحدى "الإسراء والمعراج"، وتمزق عهدة عمر، رضي الله عنه؟!

وماذا كان القرطبي سيقول عن الذين يستحلّون "حلف الناتو" الذي يسرح ويمرح فوق أرض العثمانيين، معتبرين أن حاكمها خليفة رغم أنه يجاهر بعلمانيته، ويركع خاشعا أمام قبر مصطفى كمال، الذي قضى على الخلافة العثمانية، التي يصف القرطبي من ينكر مشروعيتها بأنه عن الشريعة أصم؟

هنا تصطدم الرؤوس بحائط القداسة الذي نصّبه علماء وأتباع تمترسوا خلف الشعار المكذوب: "لحوم العلماء مسمومة"، وكأن من تناول فتاواهم "السماوية!" بالدحض أو النقد، ينال من مقاماتهم العلوية ومن قداستهم الوهابية، بل يمضغ لحومهم غيبة وتمردا. يُخفون فقه المحاسبة السياسية للخلفاء قبل العلماء، ولا يصدعون بقول عمر: "أصابت المرأة وأخطأ عمر"، فليت الذكر منهم، يكون كتلك المرأة -ولا نقول الأنثى- لأن الرجولة موقف لا جنس.

إنها "حرب" القداسة وصراع المرجعيات ومناطحة العمائم، فأي الجانبين لحومهم مسمومة دون الجانب الآخر؟ وخصوصا عند المسلم البسيط الذي يشاهد تطاير الفتاوى وتناثر الشظايا من التبريرات والتفسيرات المفصّلة على مقاس الحكام على الجانبين؟

إن "قوة الدليل" هي القاعدة الأصولية التي سطّرها علماء السلف للفصل في كل خلاف فقهي وللترجيح بين الآراء، أما الخلاف السياسي الظاهر بين العلماء –اليوم- فهو على ما يبدو يستند إلى "قوة العميل" لا الدليل، وكأنه يسير على قاعدة الترغيب بأن "الدولارات تُبيح المحظورات"، أو قاعدة الترهيب" بأن عتمة الزنازين رخصة لإغضاب رب العالمين، بدل أن تكون خلوة لتوحيد الألوهية مع توحيد الربوبية.

وبعد ذلك كله، تصبح دندنة الشاعر "لا غرفة التحقيق باقية... ولا زرد السلاسل" بدعة لغوية، إذ هي لا تلتزم بحور الشعر/السلفية، مع الاحترام للخَلِيل بن احمد الفراهيدي واضع علم العروض، وسيّد البحور الشعرية.

وخلاصة القول إن مضغ لحوم الحكام –بل تكسير عظامهم سياسيا- هو عبادة ربانية تمارس عبر طقوس "الكفاح السياسي" ضد الاستبداد والهيمنة الغربية، ولذلك فإن طحن فتاوى اللحوم المنتنة التي تُصدر للاصطفاف مع الحكام هو طاعة مشروعة، تمارس عبر شعائر "الصراع الفكري"، ضد الأباطيل التي تروجها حاشية التضليل وعمائم التخذيل، مهما تمترست خلفه من شعارات ومهما تسترت تحتها من عباءات!

ولا شك أن من يطحن تلك اللحوم قد يتسمم، إذا لم يكن حذرا حتى ولو لم يمضغها، لما في بطون كتبها من أباطيل سياسية ولما في قلوب أصحابها من ولاء للمستبدين، ولا نقول لأسيادهم في الغرب الاستعماري لئلا نتهم العلماء الصامتين أو المطبلين للحكام بالعمالة. ولكنّ من يدبر عن حكم الخلافة (الذي يجمع غايات الأمة من الوحدة والتحرر وتحكيم الشريعة)، إلى حكم الاستبداد (الذي يمزق الأمة ويخضعها للهيمنة الاستعمارية ويسير بها نحو مزيد من الليبرالية)، هو "عن الشريعة أصم" بل أعمى، ورحم الله القرطبي صاحب الحق الفكري بهذا الوصف.

 

د.ماهر الجعبري – مفكر أكاديمي من فلسطين