تأبى الذهنية الفلسطينية، التحرر من جموحها الطاغي نحو الرمزية المفرطة في مختلف تفاصيل الحياة، بدءا من الحب، إلى الشعر، والوجع، والفرح، والعبادة، وما بينهم ، وانتهاءا بالسياسة، والتعاطي مع الشأن العام، وهو الأمر الذي وإن كان قد أسهم في تفتح براعم أجمل القصائد من بين أنامل أعظم الشعراء الفلسطينيين، فإنه قد أورثنا في ذات السياق خيبات متتالية، ونكوص في مقومات بقائنا الجمعي في الأرض، واقترابنا من الإنعتاق من براثن الإحتلال الإستعماري، وقدرتنا على مواجهة مخططاته الإحلالية، العنصرية، إذ أنه من المؤسف أن إحياء ثلاث مناسبات وطنية في أسبوعين، وهي الذكرى المئوية لوعد بلفور، وذكرى استشهاد الرئيس الراحل ياسر عرفات، وذكرى إعلان الإستقلال، تحمل ذات الأليات، والأدوات، والشعارات، ولا تغادر حدود تعطيل المؤسسات العامة، وحشد الأنصار، والأعضاء، وتنظيم المهرجانات الشعبية الحاشدة، في مراكز المدن، أو القاعات المغلقة، وترديد ذات الشعارات الشعبوية، العاطفية، التي أضحى بريقها يخبو عام بعد الاخر، وهو الأمر الذي يهدر مئات الالاف من ساعات العمل، ويهدر الملايين من الأموال التي يمكن استثمارها في قطاعات إنتاجية، واستثمارية أنجع، وهو الأمر الذي تمارسه مختلف القوى والحركات السياسية في فلسطين، سواء كانت في السلطة أو المعارضة، إذ أنها جميعا، تبذّر ملايين الدولارت سنويا، على ممارسات رمزية، تستهدف إستعراض القوة، أمام الخصوم، وتسجيل نقاط خارج ساحة الصراع الحقيقي، المتمثل بالمخطط الإستعماري الصهيوني التوسعي لفلسطين، حتى غدت الخطابات، والشعارات، والوعود، هي ذاتها، عبر عقود مضت، وإن تغيرت وجوه المتحدثين، وتباينت قدراتهم على إثارة حماس وعواطف الجماهير .
اَن الأوان لأن تتحول المناسبات الوطنية، إلى فرصة للتقييم العميق، والقراءة الجادة، والتحليل الواعي، والنقد البنّاء، والمراجعة المستمرة، أليس من المخجل أن أيا من الفصائل، والقوى الوطنية، لم تنظم مؤتمرا علميا، حول وعد بلفور، لكي نستطيع بعد قرن من الزمن، أن نجيب بشكل عقلاني، ومنطقي، لماذا فشلنا عبر القرن الماضي، وكيف يمكن أن ننهض من كبواتنا المتلاحقة، وبأي أدوات، ألا يجدر بنا اليوم ونحن نحيي الذكرى التاسعة والعشرين لإعلان الإستقلال، أن نجيب معا، وبروح الفريق الواحد، والجسد الواحد، لماذا لم يزل الإستقلال غير ناجزا، وكم نبتعد اليوم عن تحقيقه، والأدوات اللازمة للقيام بذلك، ألا يستحق الشهيد الراحل ياسر عرفات، قائد الحركة الوطنية الفلسطينية لما يقارب الأربعة عقود من الزمن، لقاء علمي، أكاديمي، محايد، يسلط الضوء على أبرز الإنجازات في عهده، وكيفية البناء عليها، وأبرز العثرات التي مرت بها مسيرته النضالية، لكي نتخطاها مستقبلا، إذ أن ذلك، لا ينتقص بأي حال من الأحوال من رمزيته، وحضوره في قلوب الجماهير، لكنه يشكل ضرورة للأجيال، والقضية الوطنية الفلسطينية، ألا يجدر بمؤسسات المجتمع المدني التي استعذب الكثير منها الإسترخاء على هوامش العمل السياسي، بعيدا عن النقد، والمواجهة، أن تلعب دورا يتوافق مع كون شعبنا لا زال تحت الإحتلال، وأن تساهم في خلق رؤية وطنية مشتركة، عبر منهجية الديمقراطية المباشرة، في ظل غياب الديمقراطية التمثيلية، نتيجة الانقسام، الذي لا زال يخيم على المشهد الوطني الفلسطيني بشكل عام، إذ أن كل ذلك لا ينتناقض أبدا من ضرورة احترام الرموز الوطنية، وفي مقدمتها السلام الوطني، والعلم الوطني، وهيبة ووقار الشهداء، إلا أن تلك الرموز، بحاجة لوعي لكي تحميها، وتسلحها، وتحافظ عليها، ونحن بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى أن نتمسك بالأداء العقلاني، وأن نتحرر من ردود الفعل العاطفية .
في ظل استمرار الثقافة الشعبوية السائدة ومن يوجهها، ومع استمرار حالة التواكل، والسلبية، والنكوص التي يعاني منها موجهي الرأي العام، مؤسسات وأفراد، فإننا سنبقى مراوحين للمكان، والشعارات الرمزية، في أفضل الأحوال، فيما عدونا يسير بخطى مضطردة نحو هدفه المنشود، وهو تحقيق شعاره القديم، المتجدد " أرض أكثر، وعرب أقل " .
بقلم : رائد محمد الدبعي