تحت عنوان الأزمات العالمية ... العالم الإسلامي والغرب، عقد حزب السعادة التركي مؤتمره السادس والعشرين، الذي عقد دورته الأولى وأسس له البروفيسور نجم الدين أربكان، رئيس الحكومة التركية الأسبق، وزعيم ومؤسس العديد من الأحزاب التركية ذات الهوية الإسلامية، والتي كان آخرها حزب السعادة الذي أشرف على المؤتمر من خلال مركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية، ليكون منصةً إسلاميةً عالمية، ومنبراً دولياً يخاطب المسلمين عامةً ويستمع إليهم كلهم، ويناقش قضاياهم وهمومهم، ويلمس جراحهم وألامهم، ويتطلع معهم إلى طموحاتهم وآمالهم، ولا يتردد في أن يكون صريحاً في المكاشفة، وجريئاً في المعاينة، وشجاعاً في وصف الداء ومباشراً في تحديد الدواء.
وقد أمَّ المؤتمر شخصياتٌ فكرية وقاماتٌ حزبيةٌ كبيرةٌ، لها دورها في بلادها، وعندها تاريخها المشرف في أوطانها، وغيرهم من أصحاب الفكر النير والأقلام الجريئة والمواقف الإسلامية المسؤولة، الذين أوقفوا حياتهم على رفعة الإسلام وأهله، وحرصوا على نقائه وطهره، وعملوا على سموه وقدسه، ودافعوا عنه بحرقةٍ وألمٍ، ودبوا عنه التهم والأباطيل، وصدوا عنه الفتن والمحن، ونزهوه من الخرافات والخزعبلات، وكانت لهم وقفتهم الشجاعة في مواجهة الأفكار المتطرفة والمفاهيم الخاطئة والدعوات المضللة، ولم يترددوا في إعلان البراءة من الأفكار الضالة والحركات المشبوهة والتنظيمات الفاسدة.
وقد صادف انعقاد المؤتمر السادس والعشرين لهذا العام، الذكرى المئوية الأليمة لوعد بلفور المشؤوم، الذي رآه المؤتمرون أساساً لكل الأزمات، وسبباً في كل الصراعات، ومنطلقاً للكثير من الحروب والمواجهات، ولم يبرؤوا منه من أصدره أو سكت عنه، أو ساعد فيه وهيأ له، ومن كان سبباً في تنفيذه وشارك في تحقيق الحلم وتمكينه، فكان الغرب جميعه أمامهم مسؤولاً بأنظمته السابقة وقياداته اللاحقة وحكوماته الحالية، فهم جميعاً شركاء في هذه الجريمة، ومتعاونون في ارتكابها، ومسؤولون عن نتائجها، ومحاسبون على آثارها، ومعنيون شاءوا أم أبوا في السعي للتكفير عن جريمتهم والبراءة من فعلهم، ولو أدى ذلك إلى تفكيك ما ركبوا، وهدم ما بنوا، ونزع الشرعية عما زوروا واختلقوا، ورفع الغطاء والحماية عمن زرعوا ومكنوا، والتوقف عن دعمهم ومساندتهم، والكف عن مساعدتهم وتشجيعهم.
خلص الباحثون في أوراقهم أن الغرب لا تحكمه الأخلاق في علاقته مع المسلمين، ولا تحركه القيم والمثل، ولا يسعى لبناء علاقاتٍ إنسانيةٍ محترمةٍ معهم إيماناً بذلك، وإقراراً بحقهم في الشراكة معهم على قاعدة المساواة الإنسانية، والشراكة الحقيقية المتزنة بين الشعوب، بل إن علاقته تقوم في أصلها القديم والجديد على التصادم، أو على عدم التصالح واللقاء، فالغرب لا يرى مصلحةً في علاقةٍ متوازنةٍ مع جيرانه في العالم الإسلامي، إذ أن المسلمين الذين يتجاوز عددهم ثلث سكان المعمورة، يحوزون على أغلب خيرات الأرض، ويسكنون الجزء الأقدم منها والأكثر حيوية وفعالية، والأغنى بالنفط والثروات المعدنية، ولهذا فإن علاقةً تصالحية مع المسلمين تحرمهم من الهيمنة التي اعتادوا عليها، وتمنعهم من النهب الذي قاموا عليه، والاستغلال الذي حافظوا عليه، وإغراق الأسواق بمنتجاتهم وفق أسعارهم التي يريدون، وعليه فهو لا يريد علاقةً تقوم على الاحترام المتبادل والنفع المشترك، إنما يريد علاقة تقوم على المصالح والنفع الخاص، وحيث تكون مصالحه تتوجه علاقته.
تطلع المؤتمرون وهم جمهرةٌ كبيرةٌ من خيرة المثقفين والمفكرين، وأرباب القلم ورواد الثقافة، والاقتصاديين ورجال الأعمال، إلى علاقةٍ نديةٍ مع الغرب، لا تبعية فيها ولا ارتهان، ولا دونية فيها ولا صغار، ولا عودة من خلالها إلى سني الاستعمار والهيمنة، حيث كان الغرب يسرق خيرات بلادنا وينهب مقدرات أوطاننا، ثم يعيد بيعها لنا بأسعار باهظة وأثمانٍ عالية، بما يرهق السكان ويدمر اقتصاد البلاد، ويفرض عليها تبعية وتخلف، ويرتب عليها ديوناً وصكوكاً تفقدها استقلالها وتكبل حريتها، وتجبرها على بيع مستقبلها وتقييد أجيالها بما لا تقوى على الانفكاك منه والانعتاق من ربقته لسنواتٍ طويلة.
لكن الباحثين وهم في جلهم خبراءٌ، يرون أن ندية العلاقة يلزمها تطورٌ وتقدمٌ، واستقلالٌ وحريةٌ، وإبداعٌ وجودةٌ، فلا منافسة للغرب في أسواقهم بدون تحقيق أعلى درجةٍ من شروط المنافسة، وأفضل مواصفات الإنتاج، إذ أن الردئ لا يطرد الأجود، والأقل جودةً لا يحل مكان الأفضل، وقد أصبح للمستهلك ثقافةَ جودةٍ عاليةٍ، ومزاج إبداعٍ يصعب خداعه أو تضليه، كما يصعب إقناعه وحمله على القبول بالمنتج مجاملةً أو دعماً للاقتصاد القومي للبلاد، وهذه الثقافة باتت ثقافةً غالبةً لدى المستهلكين عامةً، الأمر الذي يجعل لزاماً على المسلمين أن يحوزوا على السبق الإنتاجي، والتميز البيِّن في الشروط والمواصفات.
وتوقف المؤتمرون طويلاً أمام الصورة المشوهة التي لحقت بالمسلمين، ورأوا أنها باتت تقف حجر عثرةٍ أمام الوفاق مع الغرب، أو التفاهم معه وبناء علاقاتٍ متزنةٍ مع مؤسساته، فقد ألحقت الجماعات المتطرفة والفرق المشددة ضرراً فادحاً بالمجتمعات الإسلامية، وأضرت بالنظام البنيوي لها، وأساءت إليها لدى الغرب عموماً ولدى فئاتٍ كبيرةٍ من المسلمين أيضاً، ومن شأن هذه الصور المقيتة عن سلوك المسلمين واحترابهم، وحروبهم العبثية والخدمية المهولة، أن تمنع بناء علاقةٍ متوزانة مع الغرب، أو تشكيل جسورٍ ثقافية وفكرية واقتصادية واجتماعية فيما بين أبناء القارات القديمة، والسكان الأكثر قرباً وحاجةً لبعضهم البعض.
في الوقت الذي اتهم فيه الباحثون الغرب بالتآمر على العرب والمسلمين، وبالكيد لهم والدس بينهم، والعمل على شق صفهم وتفريق جمعهم ونهب خيراتهم، وبدعم أعدائهم وتأييد عدوانهم، والصمت عن جرائمهم، والنكوص عن نصرة القضايا المحقة والشعوب المظلومة، فإنهم يحملون المسلمين جزءاً كبيراً من الأزمات التي تعاني منها الأمة، فهم قبلوا بان يكونوا أدواتٍ في يد الغرب، يستخدمهم لأغراضه، وينفذ من خلالهم مآربه، ويشجعهم على تنفيذ سياسته والمضي على منهجه.
وعليه فإن اتهام الغرب وحده، وكيل الاتهامات ضده، ونسب الموبقات كلها إليه، والبراءة من الجرم، والتنصل من المسؤولية، وإلقاء اللائمة على غيرهم أمرٌ فيه ظلمٌ وافتئاتٌ للأمة وشعوبها، ولهذا لا بد من محاسبة المقصرين، ومعاقبة المخطئين، والضرب بيد من حديدٍ على الخائنين، وعدم الصمت إزاء المتآمرين، فجريمة الداخل أشد وأنكى بكثير من جريمةٍ يرتكبها العدو من الخارج، إذ الأولى تفسخ المجتمع وتدمره من الداخل، بينما الثانية قد توحده وتجمع صفه، وتخلق فيه روح التحدي والمواجهة.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
استانبول في 16/11/2017
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]