(هذا المقال من الأرشيف قبل أربعة عشر عاماً 25/10/2003م، نعيد نشره كما هو للأهمية ولتذكير الجيل الحالي ببعض المحاولات التي جرت سابقاً لكسر الثوابت الوطنية، ولا زلنا نحمي هذه الثوابت ونلتزم بها، ومالم يكن مقبولاً في الماضي لن يكون مقبولاً اليوم وغداً، وخصوصاً في ما يروج له اليوم صفقة القرن).
لقد كشف النقاب مؤخراً أنه منذ انهيار محادثات السلام في كمب ديفيد صيف عام 2000 م ، أي لثلاث سنوات خلت ، عملت مجموعة من ( الناشطين ) السياسيين الإسرائيليين مع نظراء لهم من ( الناشطين ) السياسيين الفلسطينيين عرفت بمجموعة( ياسر عبد ربه – يوسي بلين) ، لصياغة مشروع اتفاق سلام ينهي الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، وذلك برعاية سويسرية في منتجعات جنيف بعيداً عن الأضواء الإعلامية ، وضوضاء قرقعة السلاح والعربدة الإسرائيلية في مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين ، وتم الإعلان مؤخراً عن توصل المجموعة إلى اتفاق السلام المنشود ، الذي عجز عن التوصل إليه الطرفان سابقاً ، وكشف النقاب عن التوصل بكل سهولة ويسر إلى المعجزة التي أرقت المنطقة والعالم ، والتي توجه رسالة للعالم أجمع أنه بإمكان الطرف الفلسطيني والطرف الإسرائيلي التوصل إلى اتفاق سلام نهائي . ولا يمكن أن توجد أية عقبة قادرة على تعطيل الحل النهائي بينهما . والوصفه السحرية في ذلك تكمن في تلبية الطرف الفلسطيني مطالب الطرف الإسرائيلي ، بدءاً من منح إسرائيل الحق في السيادة على حي المغاربة ( الحي اليهودي ) في القدس القديمة وعلى حائط البراق ( حائط المبكى ) ، ومباركة الاستيطان الإسرائيلي في القدس الشرقية ومحيطها الجنوبي والشرقي والشمالي وتضييق الرقعة أو المساحة المتاحة أمام العرب في القدس الشرقية للتوسع العمراني ، واقتصار أحياء القدس الشرقية على ما هي عليه ، وفتح المجال أمام نمو الاستيطان الإسرائيلي في القدس الشرقية ليغطي جميع المساحات والفضاءات غير المشغولة داخلها وفي محيطها ، مما يؤدي إلى عزلها عن محيطها بالضفة الغربية ، ويخلق استحالة جغرافية وديمغرافية لتكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة ، ليس هذا فقط بل يصبح العرب الفلسطينيون فيها أقلية في إطار (( القدس الموحدة )) ، تفقد معه مدينة القدس في نهاية المطاف طابعها العربي الإسلامي المسيحي ، وتصطبغ بالصبغة اليهـودية ، القـادمة من أحيـاء نيويورك وموسكو ، ومروراً باعتراف الشـعب الفلسطيني بإسرائيل في حدود ما قبل الرابع من حزيران 1967 م ، بأنها (( دولة يهودية )) خالصة خاصة بالشعب (( اليهودي )) ، وانتهاءً بإسقاط أي مطالبة فلسطينية بممارسة حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم التي اقتلعوا منها سنة 1948 م على أيدي العصابات الصهيونية . وقد يتمادى العطاء والسخاء الفلسطيني مستقـبلاً إلى القبول بتهجير الفلسطينيين الذين استـمروا صامدين في مدنهـم وقراهـم سنة 1948 م إلى خارج حـدود إسرائيـل من أجل المحـافظة على النقـاء العنصـري (( للدولة اليهودية )) ، وأن تتم الموافقة من الجانب الفلسطيني على إنهاء مشكلة اللاجئين نهائياً بالتوطين حيث هم الآن أو في نطاق الدولة الفلسطينية مستقبلاً أو يجري البحث لهم عن منافي جديدة ، تكون هذه المره خارج المحيط العربي والإسلامي ، لاقتلاعهم من جذورهم وقذفهم في دول الغرب الأوروبي وأمريكا وكندا وأستراليا ، حتى لا يبقى هناك فلسطيني واحد يحمل صفة لاجئ في الدول المحيطة بإسرائيل ضماناً لأمنها وسلامتها . وبكل سهولة ويسر يرسم اتفاق مجموعة سويسرا حلاً سلساً وإنسانياً لمشكلة ((عودة اللاجئين الفلسطينيين )) الذين عانوا من ويلات التشرد واللجوء على مدى ستة عقود خلت ، وهم ينتظرون حلاً يعيدهم إلى بيوتهم ومزارعهم وقراهم ومدنهم التي شردوا منها ، وقد أصبحت في حوزة (( الدولة اليهودية )) . فيتوجب عليهم اليوم تقديم الاعتذار (( للدولة اليهودية )) عن جميع القرارات الخاصة بمسألة اللاجئين والتي صدرت عن جميع المنظمات الحكومية وغير الحكومية وحملت إسرائيل المسؤولية الأخلاقية والقانونية والسياسية عن الأوضاع التي تعرض إليـها اللاجئون الفلسطينيون على مدى العقود الستة السابقة والتي أكدت حقـهم في العـودة إلى وطنـهم بدءاً من القرار 194 ، وانتهاءً بالقـرارات التي ستصدرها الجمعـية العامة للأمم المتحدة في دورتها الحالية بعد توقيع اتفاق سويسرا ( ياسر عبد ربه – بلين ) .
لا أود أن أتناول مختلف البنـود التي احتواها هـذا الاتفـاق السلس والمتناغم مع ما يجب أن يكون عليه (( الناشط الفلسطيني الحديث )) و (( القادم الجديد )) في قبـول كامل المطالب الإسرائيلية وتفهمها ، حتى لا أفرض عليكم موقفاً مسبقاً من هذا الاتفـاق العـتيد ، فبإمكان القارئ الإطلاع بنفسه على الوثائق التي نشرت الاتفاق وفي أكثر من مصدر إسرائيلي وعربي ، ليقف بنفسه على تفاصيله ودقائقه ، ويحدد موقفه منه دون أي ضغط أو تحريض ، ويقف على مدى الإنجاز التاريخي الذي يحققه هذا الاتفاق المعجزة (( اتفاق سويسرا )) ! والحل المبدع لأعقد قضية يشهدها التاريخ الحديث قضية فلسطين ، القضية الأولى للعرب والمسلمين ! .
لابد أن نسجـل لمجموعة اتفـاق سويسرا جرأتها ، وتجاسرها ، وقدرتها التي تجلت في الإعلان عن توصلها إلى اتفاق سلام نهائي أنهى جميع قضايا الوضع النهائي ( القدس ، المستوطنات ، الحدود ، اللاجئون ، مبدأ الدولتين ، المياه ، والهواء ، والسيادة ..الخ ) ، تلك القضايا العضوية والأساسية المكونة للصراع والنزاع الفلسطيني الإسرائيلي ، والتي سبق أن أجل اتفاق أوسلو العتيد البحث فيها ، لإدراك طرفيه مدى صعوبة هذه القضايا ومركزيتها ، حيث أن كل قضية منها تمثل لغماً في طريق اتفاق السلام النهائي بين الطرفين ، أو تهرباً من مواجهة الحقيقة ، أو لعدم نضج أوضاع الطرفين للدخول في اتفاق جاد ونهائي حولها ، أو بانتظار أن يفرض كل طرف حقائق جديدة على الأرض تفسد مطالب الطرف الآخر وتجعلها مستحيلة التنفيذ ، أو حصول متغيرات إقليمية ودولية تجعل مطالب كل طرف مطالب مشروعة وتكسبها إمكانية التنفيذ وتعطل مطالب الطرف الآخر وتجعل منها مطالب مستحيلة التنفيذ .
نعم ، لقد انهارت مفاوضات السلام في صيف عام 2000 م في كامب ديفيد عندما تم اقتراب الطرفين من بحث مسألة القدس ومسألة اللاجئين لما تمثلانه من عناصر جوهرية عضوية أساسية في تكوين الصراع واستمراره بين الطرفين ، وذلك بسبب عدم نضج الرؤية الإسرائيلية للسلام الدائم أو اقترابها من ملامسة الحقيقة التاريخية والاجتماعية والوجدانية لهذين العنصرين من عناصر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي واللذين بقيا على مدى ستة عقود يمنحانه حيويته وتجدده وتعقيداته وديمومته .
إن القراءة الأولية لمشروع (( اتفاق سويسرا )) تظهر سطحية متناهية وسذاجه سياسية في الجانب الفلسطيني منه لتناوله أهم وأعقد القضايا العضوية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بطريقه تم فيها تبسيطها واختزالها وكأنها قضايا هامشية مما أدى (( باتفاق سويسرا )) للتوصل إلى حلول غير واقعية ولا منطقية لها ، وتفتقد للتوازن المطلوب في وضع أي اتفاق سلام بين طرفين كاملي الأهلية والمسؤولية ، وخصوصاً في ما يعرف بقضايا الوضع النهائي التي تتداخل وتتشابك فيها العوامل السكانية والترابية والعقائدية والسيادية ، تداخلاً يصعب معه تفكيك هذه القضايا والعوامل ، واحتساب مؤثراتها وانعكاساتها بدقة على صيرورة الصراع وتحولاته ، للوصول به إلى حالة من التوافق أو الحل النهائي والدائم ، بما يضمن لكلا طرفيه الحياة الآمنة ضمن حدود اكتشاف الذات والحفاظ عليها ، واعتراف كل طرف بحدود وحقوق الطرف الآخر ، بعيداً عن تأثيرات احتكار القوة وتجلياتها العنفيه ، وما تبثه من شعور بالنشوة وحب التحكم والسيطرة والاستغلال والاستحواذ على الآخر .
لقد غاب عن ذهن مجموعة (( اتفاق سويسرا )) أن القضايا الجوهرية والعضوية المكونة لأي صراع ، لا يمكن حسمها ولا التوصل إلى إبداع حلول نهائية ودائمة لها ما لم ترتكز على أسس عادلة تؤدي إلى اجتثاث الأسباب المولدة والمنتجه لتلك القضايا والأزمات ، والعمل بالتوافق بين الطرفين على إعادة الحقيقة التاريخية والاجتماعية والسياسية إلى مسارها الصحيح ، في إطار سياق سياسي فلسفي مبدع متجرد من جمـيع عوامل القوة المتحولة والمتغيرة بتغير الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، والتي تحدد ميزان القوى بين الطرفين على مستوى اللحظة الراهنة ، لا على مستوى صيرورة الحقيقة الثابتة والدائمة التي ستبقى تحكم العلاقة بين أي طرفي نزاع حتى يتم تقريرها .
لقد شهد التاريخ السياسي للصراع بين الأمم القديمة والحديثة الكثير من اتفاقات السلام التي سرعان ما تهاوت وسقطت وذهبت أدراج الرياح، لأنها كانت تعكس سلاماً مبنياً على أساس مبدأ القوة الراهنة ، ولم تأخذ بعين الاعتبار التأسيس لسلام دائم يقوم على أساس إحقاق الحقيقة التاريخية والاجتماعية بشكل عادل ، وتصحيح الأوضاع الشاذة التي أنشأها الصراع وعوامل القـوة المجردة ، وبالتالي عجزت مثل هذه الاتفاقات عن استئصال أسباب الصراع والنزاع ، والانتقال بطرفي الصراع إلى حالة من الوفاق والسلام الدائم . واتفاق مجموعة سويسرا هذا يأتي في إطار مثل هذه الاتفاقات القائمة على أساس ميزان القوى للحظة الراهنه ، فأنى له أن يأتي بالسلام الدائم للإسرائيليين والفلسطينيين ؟ وأنى له أن يحقق الأمن للجميع ؟ . فهو قد قفز عن العناصر الأساسية لأسباب الصراع قفزة غير محسوبة العواقب سواء منها العناصر السكانية أو الإنسانية أو الترابية أو السيادية أو العقائدية ، فاتفاق مجموعة سويسرا كان هدراً للوقت ، واستعراضاً للعضلات الإسرائيلية ، ودغدغة لأحلام النقائيين الصهاينة ، ووضع الطـرفين الفلسطـيني والإسرائيلي على عتبـة سـلام مستحـيل ، وقـد مثل فيه (( النشطاء )) الإسرائيليون عناصر القوة الإسرائيلية من خلال تثبيتهم عدم مسؤولية إسرائيل سياسياً أو قانونياً عما جرى للشـعب الفلسطيني في العام 1948 م وأسقطوا عن كاهلها أي التزام أو واجب تجاه عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى قراهم ومدنهم في موطنهم الأصلي فلسطين ، وشرع اتفاق سويسرا لإسرائيل إطلاق يدها بصورة دائمة في الكيان الفلسطيني المقترح أمنياً وسيادياً واقتصادياً ، بشكل يصبح معه أمل الاستقلال الوطني الفلسطيني هدفاً بعيد المنال .
وقد مثل (( النشطاء )) الفلسطينيون المشاركون في اتفاق سويسرا حالة اليأس والوهن العربي الراهن ، من خلال رضوخهم لجملة المطالب الإسرائيلية ، واختزال المطالب الفلسطينية إلى ما دون الحد الأدنى منها ، وكسر الثوابت الوطنية والقفز عنها بجرأة نادرة في تاريخ القضية الفلسطينية ، ومنحوا صك البراءة النهائي للصهيونية ولإسرائيل من كل ما اقترفته أياديهما في حق فلسطين ( الإنسان ، والأرض ، والمقدسات ) وفي بحثهم عن منافي جديدة وبعيدة عن المنطقة لتوطين اللاجئين الفلسطينيين حتى تهنأ إسرائيل وتنعم بالأمن والسلام الدائمين .
د. عبد الرحيم محمود جاموس
E-mail: pcommety @ hotmail.Com
25/10/2003 م