قُلنا إن الحرب في سورية ستنتهي يوم يتفق الفُرقاء الإقليميون والدوليون على خارطة المصالح في هذا القُطر. أي، على صيغة تقاسم للمصالح تُرضي هؤلاء الفُرقاء- الأصدقاء- الأعداء. وهو ما تتضح معالمه في الآونة الأخيرة: الاتفاق على مناطق خفض التوتّر، الاتفاق على حجم وكيفية التواجد التُركي في شمال القُطر والتواجد الروسي والإيراني والأميركي والإسرائيلي حتى آخر القائمة. وما يحصل في سورية يبدو أنه سيحصل بصورة أشمل في الإقليم إذا كُتب للمبادرة الأميركية الدولية المسمّاة "صفقة القرن" النور والنجاح.
وعلى رغم عدم اتضاح معالمها، فإننا نفترض بناء على تجارب سابقة في العالم أن تفاهمات بحجم صفقة إقليمية هي وَصْفة أكيدة لإلحاق الأذى والضرر بمجموعات مُستضعفة لا تقع موقع الانسجام والتطابق مع مصالح عُليا للأطراف القوية.
إن انقشاع "داعش" كعاصفة عنفية أو كغبار حرب كشف حقائق الصراعات في الإقليم. فإذا كان الأميركيون دعموا أكراد سورية لردح من الزمن، فإن مصالح تركيا تقضي بضربهم وسحب البساط من تحت إنجازاتهم كإقليم وسكان وحالة انتظام وشبه سيادة. وإذا كانت تركيا تبجحت سابقاً بدعمها غير المشروط للمعارضة السورية فإن استقرارها عسكرياً في شمال سورية كرادع عسكري للأكراد يُنسيها تماماً وعودها للمعارضة. وإسرائيل الرابحة الأكبر من الأزمة السورية غير معنية في نهاية الأمر إلا باستتباب الأمن على خط وقف إطلاق النار من 1974 في الجولان المحتل وتمتّعها بمزايا الجولان المحتل كجغرافيا وموارد. أما روسيا التي تنسّق كل حضورها في سورية مع الإسرائيليين، فلا يعنيها سوى تهدئة الأمور لتثبيت تواجدها الفعلي على الأرض السورية وفي أشكال عدة.
أما الفلسطينيون المنتظرون حلاً هو على الأقلّ إنهاء الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وحصار قطاع غزة، فيجدون أنفسهم الآن أمام لُعبة الكبار- اشبه بما حصل في سنتي النكبة 1947-1948- وهولها وأحكامها. وقد كشفت مصادر الرئاسة الفلسطينية عن ضغوط هائلة على الرئيس أبو مازن ليقبل بـ "صفقة القرن" التي تقضي بتسوية المسألة الفلسطينية، وليس عبر الحلّ المتداول ("دولتان لشعبين") وإنما وفق القبول بالسيادة الإسرائيلية من البحر للنهر وبالسيادة الفلسطينية الجزئية في مناطق فلسطينية يتم تحديدها. وفي هذا الإطار، يتمّ تداول خيارات الدولة الديموقراطية الواحدة من البحر إلى النهر، مع ترتيبات خاصة لضمان حكم ذاتي متطور وفعّال للفلسطينيين ضمن هذه الدولة.
وقد أشار رئيس الحكومة الإسرائيلية أخيراً مرتين على الأقلّ، بقوله إن هناك حلولاً بديلة لحلّ الدولتين. وأشار مراقبون إسرائيليون صراحة إلى احتمالات الحلّ القائم على فَدْرَلة السيادة والعلاقات بين الشعبين في المساحة ما بين البحر والنهر.
مهما يكن من أمر الحلول العملية والترتيبات التي تقتضيها ضمن صفقة القرن، فإن الجانب الفلسطيني هو الأضعف في المعادلة وليس قياساً بإسرائيل الرسمية بل قبالة "الصفقة" في مستوى موازين القوى ومحصّلاتها. ومع هذا سيكون عليهم أن يتفاعلوا مع صفقة بهذا الحجم وهذا التأثير. وباعتقادي أن لديهم ما يقولونه ويفعلونه بخاصة أن على طاولة الرئاسة الكثير من التقارير الاستراتيجية التي رسمت مسبقاً بأيدي ناشطين وناشطات فلسطينيين سيناريوات ممكنة للصراع والحل. ومن هذه السيناريوات الذهاب في خيار الدولة الواحدة مع الشعب اليهودي ومع ترتيبات خاصة بالفلسطينيين لجهة حكم ذاتي ثقافـي- سياسي بما يشمل الفلسطينيين من مواطني إسرائيل. وبدأت الأوساط الفلسطينية تتداول الخيارات المطروحة التي تتجاوز خيار الدولتين، استناداً إلى جهد تفكيري قامت به أوساط فلسطينية عدة في السنوات الأخيرة، خاصة بعد الانتفاضة الثانية وانسداد الأفق السياسي على مسار أوسلو.
ومن معرفة قريبة ببعض هذه الاجتهادات أسجّل أهمية الرجوع إليها في هذه المرحلة واستثمارها في بناء خطة عمل للمرحلة المُقبلة. ومهما يكن الخيار الفلسطيني المعتمد، على القيادة أن تؤكّد إنهاء حالة الاحتلال أولاً. وهذا يعني إلغاء نظام التحكّم الإسرائيلي بالزمان والمكان الفلسطينيين وما عليهما من بَشر. ينبغي أن يكون هذا شرطاً للدخول في مفاوضات حول أشكال مغايرة للتسوية ضمن "صفقة القرن". في تسوية تقوم على حكم ذاتي كامل أو على فيدرالية أو تبادل مناطق أو مواطنة كاملة ومساواة أو سواه- على القيادة أن تطرح مطلب إنهاء الاحتلال وأشكاله أولاً. هناك حاجة إلى تحرير الفلسطيني من سطوة الاحتلال وحواجزه وما تُلحقه من ذلّ يومي وانتهاك لكرامة الإنسان وحقوقه. مثل هذا التطوّر يُمكن أن يكون فاتحة لمفاوضات حول خيارات بديلة عن حلّ الدولتين تُفضي بالضرورة إلى تحرير الفلسطيني في شكل كامل.
مرزوق الحلبي