عندما نكون عاجزين عن طرح السؤال أو التساؤلات، التي تشخص أزمتنا أو أزماتنا، سنكون قطعاً في حالة غياب عن الوعي بحقيقة الذات وهمومها وتطلعاتها، وعندما نعجز عن طرح السؤال أو التساؤلات عما حَصَلَ لنا، ولماذا حَصَلَ الذي يَحْصُلْ سواء على مستوى الفرد أو المؤسسة، أو المجتمع، او الدولة، نكون غائبين عن الواقع وعاجزين عن فهم تفاعلاته وتطوراته، ومن أجل أن نريح أنفسنا من عناء طرح السؤال وما يرتبه علينا من البحث عن الجواب ومن البحث عن الأسباب التي أدت إلى تلك الأحداث، فإننا نتسلح بأجوبة جاهزة، إما تحيل كل ذلك إلى القدرية، أو إلى فعل وخطط الآخر، التي يقع علينا تأثيرها سلباً أم إيجاباً في كلتا الحالتين، وفي كلتا الحالتين نحن غير فاعلين إنما مفعولٌ بنا، وقد إستمرأنا (هذه القدرية) وهذا (التغييب للدور الذاتي) كي نعفي أنفسنا من تحمل المسؤولية عن أي شيء يخص حياتنا أو يصيبنا حاضراً أو مستقبلاً.
من هنا تتراكم أزماتنا دون أن نجد لها تفسيراً علمياً عقلياً مقنعاً، وبالتالي دون أن نجدَّ مخرجاً لها سوى التسليم والتعايش مع هذه الأزمات المتوالية، كالمتواليات الهندسية، بحيث يضيع الجميع ويغرق في هذه الأزمات على المستوى الفردي والجمعي ويصل إلى رأي أو موقف سلبي مطلق يلخصه القول السائد لدينا (فالج لا تعالج) منتهى الإستسلام للمرض وللأزمة.
هذا ما يطبع طباعنا، ويطبع واقعنا منذ أن إنسلخت مجتمعاتنا عن الحكم العثماني مع نهاية الحرب العالمية الأولى وإلى الآن، فقد رسمت لها الحدود ورسمت لها الدول، ونُصبَتْ عليها نخب، وحِيكَتْ ضدها وضدَ آمالها الخطط والمؤامرات، وهي مجرد مستَقبل لكل ذلك، مع تفاوتات تكاد لا تذكر بين مجتمع وآخر أو دولة وأخرى، تلك هي (أزمة) الأزمات، هي غياب الوعي بالذات كما غياب الفهم والإستيعاب للواقع الذي يحيط بها، فباتت أمام سلسلة من الأزمات الفردية، والجمعية، وإنعكست على حياة شعوبها ودولها، وشكلت عوائق تقدمها ونهضتها، ما جعلها دائماً فريسة للخوف من كل جديد، وفريسة سهلة للآخر المتربص بها، تتغنى بالماضي وهو محلُ إختلاف بينها، كما لم تفهم الحاضر، وتفتقد لرؤيا متكاملة ومحددة للمستقبل، وأخطر هذه الأزمات التي تعانيها مجتمعاتنا العربية هي التمزق في الهوية والإنتماء ما بين (العشائري والطائفي والوطني والقومي والديني) وبقيت أسيرة لهذه النزعات، فعجزت عن التحول إلى المجتمع المدني الحديث الذي تذوب فيه تلك الأبعاد لصالح وحدة المجتمع وصناعة الوطن والمواطنة، وبالتالي صناعة الدولة الحديثة، القادرة على القيام بمهامها والأخذ بيد شعوبها نحو التحرر ليس من هيمنة الآخر فقط بل قبل كل شيء من الخوف المعشش في العقول من التغيير ومن التجديد، ثم التحرر من الكسل والتواكل والسلبية، إلى إبداع العقل وإعمال الفكر وإبداع الإختراع والعمل، والإنتقال إلى دائرة الفعل والتفاعل البيني أولاً ومع الآخر ثانياً، مما يقتضي إذابة الحواجز القبلية والطائفية والدينية والطبقية، وتحقيق إنجاز المجتمع الوطني المدني على مستوى الدولة الواحدة، وإنجاز رؤيا ثقافية واضحة تحدد هوية الدولة والمجتمع، وتنهي أزمة التمزق الهوياتي الذي تعاني منه كافة المجتمعات والدول العربية دون إستثناء، وتصبح بالتالي محصنة من الأمراض التي تفتك بها وبوحدة الدول والمجتمعات من جهة كما تصبح محصنة أمام الولاءات والتدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية سواء من قوى إقليمية أو دولية من جهة أخرى، وهذا لا يمكن ان يتحقق في ظل غياب المشروع الجامع للمجتمع الوطني على مستوى الدولة الواحدة، أو على مستوى مجموعة الدول، ولنا في الدولة المدنية في أوروبا كما في آسيا نماذج للدراسة والإستفادة من تجاربها في بناء أولاً المجتمع وصولاً إلى بناء الدولة الوطنية التي حققت نجاحات، لازالت المجتمعات والدول العربية بعيدة عنها، لابد من تغييرات إجتماعية فكرية سياسوية سلطوية تؤمن بقدرة العقل وضرورة إعمال الفكر وإحترام الفرد وإطلاق طاقاته، والتخلص من روح الإستبداد وإحلال الحرية في التفكير والإختيار كمقدمة لبناء الفرد السوي الذي هو اللبنة الأولى في بناء المجتمع والدولة، ما يؤدي إلى إنضاج رؤيا مجتمعية نهضوية، غايتها رفاهية المواطن وإحترامه ووحدة المجتمع وتقدمه، ووحدة الدولة وقوتها، حتى تنطلق نحو الخروج من الأزمات المختلفة إلى مستقبل أفضل يجسر الهوة القائمة بين الدول العربية وغيرها من الدول المتقدمة، ويعالج كافة أزماتها مع ذاتها ومع الآخر بشفافية وموضوعية على أسس من الوعي التام بمصالحها وغاياتها، وبناء العلاقات مع الآخر والتفاعل معه على أساس الإحترام المتبادل ليس فقط للمشاعر بل أولاً وقبل كل شيء للمصالح المتبادلة، لأن الدول ليست جمعيات خيرية أو ثقافية، وإنما هي مسؤولة عن نهضة ورفاهية مجتمعاتها ثم عن وحدة هذه المجتمعات وتحقيق أقصى درجات الأمن والأمان لها داخلياً وخارجياً (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف).
نخلص إلى أننا لازلنا كعرب دولاً وشعوباً أمام أزمة سؤال ينبني على غيابه أزمة الحل للواقع وللمستقبل العربي إزاء جملة التحديات المزمنة والجاثمة على صدر كل مواطن وكل مجتمع وكل دولة عربية.
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس