في وصف ما تواجهه المصالحة الفلسطينية اليوم يستعير المواطنون الفلسطينيون مثلهم الشعبي "مجنون يرمي حجرا في بئر لا يستطيع مئة عاقل أن يخرجوه"، في إشارة واضحة إلى انقلاب حركة حماس العسكري على السلطة واستيلائها على حكم قطاع غزة بصورة شاملة ومنفردة.
احتدام الخلافات في دهاليز مفاوضات المصالحة برعاية مصرية يوقع المواطنين في ارتباك العودة مجدداً إلى أجواء التشاؤم، بما هي أجواء استمرار المشكلات ذاتها التي أرهقتهم خصوصا تلك التي تتعلق بحياتهم اليومية ومعيشتهم والعودة إلى الأفق المسدود. هي حالة بدأت في التصاعد مع اتضاح أن إنجاز المصالحة يمر بالضرورة بإنهاء تفاصيل لا تحصى، يخبئ كل تفصيل منها شيطانه الخاص القادر على نسف الاتفاقات العامة وإعادة الأمور إلى المربع الأول. يرى المواطنون الفلسطينيون اليوم أن ملفات لا تحصى تتكدس على طاولة التفاوض وكلها عناوين لا يمكن القفز عنها وهي بمجموعها نتاج مباشر أو غير مباشر لحدث الانقلاب العسكري ولما وقع بعده لجهة التحولات الكبرى والعميقة التي قامت بها حركة حماس في بنية السلطة وأجهزة ومؤسسات الحكم إلى الحد الذي جعلها مؤسسات حمساوية بالكامل.
هكذا باتت المصافحات والابتسامات العريضة التي تبادلها المتفاوضون مجرَد شكليات لا تقنع أحداً أن التفاوض سيحمل بالضرورة أملاً حقيقياً في الوصول إلى النهاية السعيدة، وهي تعني للمواطنين الفلسطينيين حلولاً عملية دائمة لمشكلات حياتهم اليومية وبالذات مشكلة المعابر والسفر بسلاسة وتوفير الحاجات الضرورية من المواد الغذائية ومواد البناء التي تحتاجها عملية الإعمار، وبالطبع حل معضلة الكهرباء الشائكة والمزمنة ومعها مشكلة البطالة وعنوانها الأبرز بالتأكيد وضع الموظفين القدامى منهم والجدد على السواء.
المصالحة الفلسطينية باتت على مرأى الجميع بانوراما الواقع في قطاع غزة، بانوراما الخلافات والاختلافات بين حركتي فتح وحماس ويزيدها تعقيداً أنها أصبحت وللمرة الأولى تقع في عنوان بارز يؤكد أنها إما أن يتم إنجاز كل تفاصيلها وإما أن تنهار كلها في ما يشبه حج سمنار الذي ما أن يخرج من مكانه حتى ينهار البناء كله. لا مكان في ما نقوله للتشاؤم أو التفاؤل بل لرؤية الحالة كما هي وبصورة طبيعية وواقعية نراها ضرورية لتحقيق اختراق فعلي لجدار الانقسام والانتقال إلى تفكيك ونزع الألغام من الحياة السياسية الفلسطينية والتي تهدد في كل لحظة بنسف محاولات التفاهم والاتفاق. أخطر ما يمكن أن يهدد بتبديد الجهود وبتدمير المصالحة هو القفز عن بعض المشكلات الشائكة لإرضاء الرغبة الجماهيرية الكبرى في تحقيق المصالحة بوهم حماية الرأي العام من السقوط في اليأس والعدمية.
لا تحمل الحالة الفلسطينية "سلق" الحلول على عجل أو حتى عقد اتفاقات جزئية يمكن أن تؤجل قضايا كبرى بوهم منع الفشل فما هو موجود في الواقع من مشكلات لا يسمح بترف كهذا، ناهيك عن أن نتيجته الحتمية ستكون مراكمة استعصاءات نعرف أن الشعب الفلسطيني سيرزح تحت ثقلها وأنها ستزيد من معاناته الراهنة وستدفع مجدداً إلى مفاوضات أخرى قد تبدأ من نقطة الصفر وكأن شيئاً لم يكن.
ما تحتاجه مفاوضات المصالحة الفلسطينية هو المكاشفة والشفافية وإشراك الرأي العام في كل ما يجري كي لا تظل المسألة محصورة بين المتفاوضين وراء الأبواب المغلقة. الجماهير الفلسطينية طرف رئيس في كل تلك القضايا وهي يمكنها من خلال منظمات المجتمع المدني أن تسهم بدور كبير في ما يجري وهي قادرة على ممارسة ضغوط جدية لإنجاز ملفات المصالحة وإجبار الجميع على تقديم التنازلات التي لا تتحقق المصالحة من دون تقديمها.
راسم المدهون
* كاتب فلسطيني.