ما أجمل الأرض المباركة حين تنجب أبناء بارين..تسكنهم كوطن، حتى وإن لم يسكنوها كما ينبغي للسكنى أن تكون لدى الفلسطيني، يتناغمون معها في منافيهم كقصيدة تزدحم بالاستعارات والموسيقى، وبالحس الجمالي الذي يخاطب رائحة التراب المتشربة للياسمين، والمتلونة بألوان الأقحوان والزنبق والنرجس.
وأبناء الأرض المقدسة، أصحاب الرسالة الإنسانية، يؤمنون بجسامة المسؤولية، فالعبء أعباء، حين يتعلق الأمر بوفاء الدَّين لفلسطين، الأرض والشعب والقضية، والرمزية العقائدية والإنسانية..ويتعمق الإحساس بالمسؤولية أكثر وأكثر عندما يتحول عشق الأرض إلى حالة وجدانية، سلكت طريق اللاعودة عن الهيام الذي تستنسخ فيه العروق شكل جذور شجر الزيتون، وصوتاً يشبه نغمات "اليرغول" الشعبي، وزقاق الحي الذي يبدأ وينتهي في ثنيات الروح.
عبد المحسن القطان.. واحد من أبناء هذه الأرض، الذي قاده وعيه المبكر، وإحساسه بدفء حضن الوطن، وجمالياته التي كان لها انعكاساتها على روح ابن يافا، إلى فهم حجم المسؤوليات تجاه فلسطين، فسار في سبيل ذلك في كل الاتجاهات: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والخيرية، فالأرض لديه ليست كأي أرض، وعدالة قضيته لا يضاهيها أية عدالة.
كانت سيرته السياسية تعبر عن فكر المناضل الطليعي الذي يعرف أهمية أن يتوحد أبناء الوطن الواحد في مواجهة عدوهم، ومغتصب أرضهم، فالوحدة الوطنية تأتي ضمن أولى أولويات "التمترس" والاستحكام والإعداد لمواجهة الغاصب المحتل، فقام بدعم إطارها السياسي "منظمة التحرير الفلسطينية" منذ البدايات، كما كان صوتاً يصدح بخطاب التوافق وجمع كلمة الشعب الذي مثّله خير تمثيل في "المجلس الوطني الفلسطيني"، الذي غادره وهو يمتلئ بالإيمان بأهمية إنجاز مشروعه التوحيدي لمؤسسات النضال الفلسطيني.
وللثقافة نصيب كبير من اهتمامات القطان، فقد كان يعي جيداً بأن المعركة مع الاحتلال ليست عسكرية فقط، بل من الواجب تهيئة وتدعيم بقية الجبهات، ومنها الثقافية، ففهم العدو ومخططاته، ومواجهة زيف خطابه، تتطلب بناء الإنسان الفلسطيني الواعي والمثقف، والمدرك لحقوقه الوطنية والإنسانية، ولجذوره الضاربة في أعماق الأرض، ولن يحصل ذلك دون إطلاق ودعم المؤسسات الثقافية، ليثمر ذلك عن إطلاق مؤسسة "عبد المحسن القطان" في لندن، في العام 1993، والتي نشطت في تنفيذ البرامج والمشروعات في مجالي الثقافة والتربية.
ووظّف القطان في سبيل العمل الاجتماعي والثقافي أدواته الخاصة ووسائله في العمل الخيري، فقد أغدق العطاء من ماله الخاص، على العديد من المؤسسات كمؤسسة التعاون التي كان أحد مؤسسيها، إضافة لمركز دراسات الوحدة العربية، ومؤسسة أحمد بهاء الدين، ومؤسسة الدراسات الفلسطينية، وجامعة بيرزيت، والمركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية (مسارات)، وغيرها من المؤسسات.
وكان مفهوم التنمية عند القطان يبدأ ببناء الإنسان أولاً، من خلال توفير التعليم المناسب، ليشق المتعلم طريقه في الحياة قوياً يمتلك أسباب النمو والتحديث، ساعياً لها بثقة لتطوير ذاته، حيث قدمت مؤسسات القطان من أجل ذلك المنح الدراسية الجامعية للعديد من الطلاب الفلسطينيين والعرب، لتعود بالنفع والفائدة في عملية بناء الأوطان، وبالتالي إحداث التنمية الشاملة للمجتمعات.
أصبح مشروع تنمية الذات والمجتمعات هاجساً يلازم القطان حتى آخر سنين حياته، وتجلى ذلك بإعلانه، في آذار 2011 عن تخصيص ربع ثروته لإنشاء صندوق لضمان استدامة واستقلالية المؤسسة التي تحمل اسمه، كي تبقى العملية التنموية في حالة استمرارية دائمة، تخدم الأجيال، جيلاً بعد آخر، وتدعم أركان الأوطان والمجتمعات العربية بما يضمن بقاء هذه المجتمعات قوية في وجه محاولات الإحلال الثقافي، وفي صمودها في معركة الحفاظ على الهوية.
رحل القطان بعد أن رسخ صورة المناضل الذي وحّد قواعد الكفاح ضد العدو، بعدما استغل من أجل كسب معركته كل الساحات، فللعمل الخيري دوره البارز في خدمة وتطوير العمل الثقافي، والتربوي والتعليمي، والعكس صحيح، وقطاعات العمل السياسي والاجتماعي روافد تصب بشكل متوازٍ لخدمة القضايا العادلة، فالنضال لاسترداد الأرض والحقوق، يأتي في سياقاته النضال من أجل مكافحة الجوع والمرض والجهل..والمعركة في النهاية، وان كانت أدواتها مختلفة ومتنوعة، إلا أنها ذات طيف واحد.
ننعى القطان، ذاك الصرح السياسي والخيري الفلسطيني، الذي خاض مشروعاً ثقافياً وتربوياً وتنموياً بعيد المدى، ذو أبعاد قومية، يحمل راية التوحيد لكافة الطيف الفكري والعقائدي الفلسطيني، سيما وأن الانتماءات السياسية والدينية المختلفة لا تشكل مانعاً في لم الشمل الفلسطيني، من أجل معركة التحرير، بل التنوع لا يمكن تفسيره إلا من باب الإثراء، وحيوية التعدد التي تقوي الجسد ولا تضعفه.
بقلم/ عصام يوسف