كانت الهوية الوطنية الفلسطينية وستظل على الدوام عرضة في دائرة الاستهداف من قبل المؤسسة الصهيونية الحاكمة ، التي دأبت منذ النكبة وحتى يومنا هذا ، ومن خلال سياستها العنصرية الاضطهادية التي تنتهجها بحق جماهيرنا وشعبنا الفلسطيني ، إلى محاولات شطب هويتنا الوطنية وطمس معالم حضارتنا وتشويه تاريخنا وسرقة تراثنا الشعبي وبعثرة ذاكرتنا الوطنية .
وقد قامت هذه المؤسسة ودوائرها بعمليات المصادرة والتهويد التدريجي المثابر للأرض ، وفرضت حكماً عسكرياً على جماهيرنا العربية الفلسطينية ، التي ظلت في الوطن متمسكة بالبيت والحاكورة والبيدر ، واعتبرتنا مواطنين من الدرجة الثانية ، ولم تحترم هويتنا وثقافتنا ، بل سعت إلى بث الفرقة وروح العدمية القومية وضرب نسيجنا الاجتماعي بتجزئتنا إلى طوائف وملل .
وأمام هذا الواقع الصعب والمر برز دور الحزب الشيوعي وأدبياته ، فكان التنظيم السياسي الوحيد الذي تشكل وتأسس وتبلور على الساحة السياسية ، ووقف بالمرصاد لسياسة حكام هذه البلاد ، وتصدى بكل بسالة وشجاعة لمشاريعهم ومخططاتهم التجهيلية . ولعبت صحافته الثورية التقدمية (الاتحاد ، الجديد، الغد ) دوراً طليعياً وتنويرياً فاعلاً في صيانة الهوية الوطنية والثقافية لشعبنا والحفاظ على موروثنا الثقافي ، ونشر الثقافة الوطنية والإنسانية التقدمية الشعبية ، ثقافة الحرية والتنوير والتقدم ، وتوظيف هذه الثقافة لحماية وتعزيز هذه الهوية . وكان للمفكر والمناضل والقائد الشيوعي الراحل د. أميل توما الدور الهام في تقديم المعرفة بالتاريخ الفلسطيني ، والتعريف بجذور القضية الفلسطينية عبر دراساته التاريخية ومقالاته السياسية والفكرية . وظهر على ساحتنا الثقافية جيل من المثقفين والمتأدبين والمبدعين الملتزمين المنحازين لقضايا الناس والشعب ، فأضاءوا ليلنا الحالك بإبداعاتهم وقصصهم وقصائدهم الثورية النارية المقاتلة ، وأدوا وظيفتهم ودورهم في تعبئة الجماهير وتحريضها وحضها على المشاركة في معارك النضال والكفاح لأجل البقاء والحياة والتطور في أرض الآباء والأجداد ، برز من بينهم : توفيق زياد وراشد حسين ومحمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران وحبيب قهوجي وحنا أبو حنا وحنا إبراهيم وشكيب جهشان ونايف سليم ومحمود دسوقي واميل حبيبي وتوفيق فياض وغيرهم .
وإذا كنا نحمل الهوية والجواز الإسرائيلي ، لكننا لم نتخل يوماً عن انتمائنا الفلسطيني الأصيل وهويتنا الكنعانية الفلسطينية وجذورنا الضاربة في عمق التاريخ ، رغم القمع والجور والظلم والطغيان والتمييز ، وفي كل مناسبة وطنية نعبر عن انتمائنا كجزء لا يتجزأ من شعبنا الفلسطيني المشرد والمحاصر الذي يناضل في سبيل حريته واستقلاله . وكما قال شاعر الوطن ابن البقيعة الجليلية المرحوم منيب محول :
جذوري تغور ، تغور ، تغور بعيداً بعيدا ببطن الأزل
تراب بلادي معين حياتي وبعض رفات جدودي الأول
بلادي بلادي ، فداك دمي جراحي لعينيك أحلى قبل
أو كما الشاعر ابن الناصرة الراحل فوزي جريس عبد اللـه :
لا تعذليني إذا أشركت في ديني ديني الهوى وديني فلسطيني
وبالرغم من كل المحاولات السلطوية لطمس ومحو الهوية الوطنية الفلسطينية ، إلا أن شعبنا يدحض الرواية الصهيونية ، ويزرع في عقول الأجيال الفلسطينية الجديدة أن فلسطين وطن غير قابل للنسيان ، وأن الهوية متأصلة في العمق والوجدان الفلسطيني لا يمكن طمسها وتذويبها وشطبها ، فهي كجفرا وظريف الطول وان شفت شفتيها إرث تتناقله وتتوارثه الأجيال وتصونه كبوبؤ العين كأحد أهم روابط الانتماء والتجذر والتشبث بالأرض والوطن . وهذا ما يثبته الواقع ، ويتجسد في أعمال الاحتجاج والتضامن مع أبناء شعبنا في الضفة وقطاع غزة ، الذين يواجهون بصدورهم صواريخ الاحتلال ودباباته . وهذه الهوية كما ينشد مارسيل خليفة في أغنيته الرائعة "وقفوني ع الحدود " : "إنها في يافا مخبيتها ستي ".
بقلم/ شاكر فريد حسن