لا توجد كلمة مثيرة للانفعال أكثر من القدس، فهذه المدينة احتلّت عبر كل أحقاب التاريخ القديم والجديد مكانة مفصلية.
لماذا؟ وقائع التاريخ تجيب عن هذا السؤال، أمّا في الحاضر فهي كلمة السر للاستعصاء المزمن في تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذا ما نُظر للأمر بمنظار الحقوق والجغرافيا، وهي المفاعل الجاهز لإنتاج معوقات استقرار علاقات عربية وإسلامية مع الدولة العبرية.
ولقوة تأثير القدس في المعادلات السياسية، اختار العالم عدم الاقتراب منها حين تجري محاولات التسوية فهي دائماً مؤجلة بفعل حسابات منطقية، فمن يريد حلاً لن يبلغه إذا ما بدأ بالقدس.
ولأن المقاول الرئيسي لمحاولات السلام في الشرق الأوسط هي الولايات المتحدة، فقد التزمت جميع إداراتها سياسة حذرة تجاه القدس، قوامها اتخاذ قرار رئيسي لمصلحة إسرائيل وعدم تنفيذ القرار لمصلحة احتمالات التسوية.
وحين يتخذ الحليف الأكبر لإسرائيل موقفاً كهذا، فإن العالم كله يتخذ ذات الموقف دون إلغاء التمايزات في أمر الاعتراف بالأمر الواقع والتعامل معه.
السيد دونالد ترمب انقلب على المعادلة الأميركية بشأن القدس، فما كان ينبغي أن يتم في آخر المطاف تم في أوله، والمأساوي في هذا الانقلاب، أنه لم يقدم مساقاً منطقياً لعملية سياسية تنتج خلاصات نهائية، فلا أحد يعرف ما قبل قراره الأخير وما بعده، ولا هو فيما يبدو درس الأمر بما يكفي، كما أنه لم يدقق في تداعيات هذا القرار وأثره المباشر على أحداث الشرق الأوسط، وفرص إنجاز تسوية للقضية الفلسطينية، وحين لا تُدرس أمور كهذه بموضوعية وتجرد، فلا مبالغة لو وصف القرار بقفزة في الهواء.
الرئيس ترمب لم يدقق بما يكفي في أثر هذا القرار على حلفائه ليس فقط من العرب والمسلمين، وإنما من باقي العالم الذي أجمع على تحذيره مسبقاً من خطوة كهذه، في زمن تشتعل فيه الحرائق في كل مكان على أرض الشرق الأوسط وتطال ألسنتها عواصم العالم دونما استثناء.
السياسة الأميركية وحتى في زمن ما قبل قرار ترمب الأخير، لم تكن مرضية للأصدقاء والحلفاء، ولم تستطع أميركا تبرئة سياستها من انهيارات أخذت المنطقة إلى المجهول، فانفتحت الأبواب واسعة أمام خصومها، وكثيرة تلك المساحات التي جرى احتلالها من قبل الخصوم بفعل الوهن الأميركي واللامبالاة وسوء التقديرات والقرارات.
وحين جاء ترمب شاهراً اعتراضاته على كل من سبقوه في البيت الأبيض، ذهب الظن بأصدقاء أميركا وحلفائها إلى أن توازناً أفضل قد يمارسه الرئيس الجديد إزاء الحلفاء والأصدقاء، ولم يقصر معسكر الاعتدال الصديق في مساعدة الرئيس الجديد على التوازن.
ودون الإفراط في التفاؤل وتعليق الآمال، نُظر لوعد الرئيس بصفقة القرن على أنه جدير بالرهان، غير أن انتكاسة صنعها ترمب بنفسه، قوّضت هذه الأجواء ووضعت معسكر الاعتدال الصديق أمام إحراج في زمن الاقتتال على الشعبية ومن الأكثر جدارة بخدمة أهداف الأمة والالتزام بها.
لقد وضع ترمب حلفاءه أمام معضلة إضافية وفي وقت غير مناسب، ووضع في رصيد خصومهم هدية من العيار الثقيل تصلح للاستخدام في زمن الاستقطاب الحاد، فمن بعد هذه الخطوة التفجيرية سيذهب معه فيما سيأتي من خطوات؟
كان منطقياً بل وضرورياً التعاون معه كمتعهد للحل ضمن تسوية متوازنة، أمّا الآن فقد اختلف الأمر، إذ إن الرجل بنفسه أغلق الباب دون أن نذهب إلى القول بأنه أسقط صفقة القرن قبل أن تعلن.
نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني