لم يجد الرئيس محمود عباس سوى أن يعلن على الملأ أن الولايات المتحدة الأمريكية فقدت دورها وتأثيرها ونفوذها، ليس على الفلسطينيين فقط، وإنما عن فكرة احتكار صنع السلام أو التهيئة له، يحسم مكانة القدس أو يمنحها لمن يستحقها أو ينسف العملية التفاوضية، فلا حق له في أن يمارس دوراً رفيعاً وأخلاقياً في العالم، وهكذا رأينا في مجلس الأمن كيف أن مندوبة الولايات المتحدة لم تجد ما تدافع به عن موقف رئيسها وبلادها، سوى أن هذا هو الأفضل لإسرائيل ولنا وللعالم، ولم تقدم من ذريعة سوى أن هذا ما نريد أن نفعله لأننا نستطيع أن نفعله.
إذن، إن من يتخذ هذه المواقف، يناقض فيها القانون الدولي والرؤية العالمية والعدل والحق، ومن يكافئ المحتل ويمنع ويحرم المعتدل، فإن نصيبه العزل والانعزال والاتهام والرفض والنبذ.
ولكن، ورغم كل ما يمكن أن يقال عن خطاب ترامب من أخطاء وعيوب وثقوب وفضائح، إلا أن هذا الخطاب أيضاً – برأيي – أعطى أو فتح لنهج مختلف، وكما قال رب العزة: "وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم"، ولأننا لا نستطيع أن نقول "شكراً يا ترامب"، إلا أننا نقول أن الخطأ له وجه مفيد، وكما يقال، فإن الساعة المتوقفة تشير إلى الوقت الصحيح مرتين، ولهذا، فإن خطاب ترامب له جوانب أخرى، نسردها كالآتي:
- أسقط ترامب وهم نزاهة الولايات المتحدة أو شرف رعايتها للعملية التفاوضية، فليس من المعقول أبداً أن تفاوض من يضع لك نتائج التفاوض مسبقاً، إسقاط هذه النزاهة يعني البحث عن مرجعيات أخرى ووسطاء آخرين، وربما – وهذا ما أفضله – التقدم باقتراح جديد للتعامل مع إسرائيل والمجتع الدولي، أي، لابد من غسل اليدين من الوسائل القديمة، لأن مرحلة جديدة بدأت.
- دفع ترامب إسرائيل إلى خيارات صعبة، فبعد سقوط حل الدولتين، هناك حل الدولة الذي ترفضه إسرائيل، وهناك حل الأبرتهايد الذي تخاف منه إسرائيل، حتى لو اتهمت به، وهناك حلول الكونفدراليات والفيدراليات الذي لا يُشبع نهم إسرائيل الأمني والسياسي، وهناك حلول الطرد والترانسفير، إذن، هذا الخطاب يورط إسرائيل أكثر من تقديم جوائز مجانية لها.
- يجبرنا ترامب على التوحد خلف مقولة نضالية وسياسية أخرى بعد أن وصلت كل المقولات السابقة إلى طريق مسدود، هذا الخطاب وقع علينا – توقعناه أم لم نتوقعه، عملنا من أجله أم لم نعمل – كالصاعقة، كان يشكل آخر وأصعب كوابيس عملنا السياسي، والآن يصبح هذا الخطاب حقيقة سياسية تفرض بالقوة، ولا يمكن مواجهته سوى بالوحدة الفصائلية والبرامج العملية، عملياً، هذا خطاب يحرجنا ويجرحنا، ولأنه كذلك، فإنه سيدفعنا آجلاً أوعاجلاً لأن نتوحد في الميدان وفي محافل السياسة.
- خطاب ترامب أعاد الألق والأهمية والحضور للقضية الفلسطينية التي تراجعت كثيراً، وكثيراً جداً، وأراد كثيرون أن يتخلوا عنها أويتجاوزوها، ولكن خطاب ترامب أعادها إلى المنصة، باعتبارها أكثر قضية تهدد سلام وسلم المنطقة والعالم.
- خطاب ترامب شكّل فضيحة أخلاقية وسياسية وإنسانية، فهو الخطاب الذي فضح أكاذيب حقوق الإنسان الفردية والجمعية، وأن كل ما تدعيه أمريكا من قيادتها للعالم الحر، إنما هي أكاذيب لا تسعى من ورائها إلا لمزيد من السيطرة، وأدعو الفرنسيين إلى استعادة تمثال الحرية المنصوب في إحدى الجزر مقابل نيويورك، لأن الولايات المتحدة الأمريكية لا تستحق هذا التمثال.
- خطاب ترامب أيضاً وجّه صفعة كبيرة لأقرب حلفائه في المنطقة، فقد أحرجهم الخطاب وحشرهم في الزاوية، وبهذا، فإن ترامب سيفشل في تسويق دعم إسرائيل في المنطقة، لأنه تجاوز ما لا يمكن التسامح معه، ولا يمكن لأي نظام عربي أن يوافق على التطبيع مع إسرائيل دون التوصل لما هو مناسب للفلسطينيين، لذلك، خطاب ترامب لعب دوراً مدمراً في تخريب عملية تسويق إسرائيل أو التطبيع معها.
- والأهم من كل ذلك، خطاب ترامب فضح صفقة القرن التي تحولت عملياً إلى صفعة القرن أو فضيحة القرن، فالتسوية التي تراها الإدارة الأمريكية، إدارة رامب وكوشنير وجرينبلاند، الذين أثبتوا أنهم بلا خبرات دبلوماسية ولا خلفيات سياسية، هي فرض تسوية يتم فيها مكافئة إسرائيل، بحيث تبدو وكأنها فازت في كل مراحلها ومعاركها، منذ التسعينات وحتى الآن، تبدو إسرائيل في "صفقة القرن" كأنها ترث العالم العربي، وبالطبع، فإن هذا لن يكون، حتى لو لم يكن الواقع مشجعاً على هذا الاستنتاج.
-
اللواء د. محمد المصري
09/12/2017